الصدمة التي خلفها اكتشاف الفنان السويدي سيمون فيرنر، لجماجم اطفال وهياكلهم العظمية إلى جانب صناديق من الشمبانيا في قبو الأكاديمية الملكية للفنون، والتي تعود ملكيتها إلى معهد البيولوجيا العنصرية، تحولت إلى فضيحة، سارع اقطاب اليمين الحاكم في السويد  للتعتيم عليها. غير أن الفنان الماركسي قاوم كل شيء، من ترغيب وترهيب، وعمد لإقامة معرض بعنوان (من الأرض أتيت) في كاليري ميغان في ستوكهولم، ليفضح الجريمة المخبأة، فيما أصرّ الكثيرون على عدم دفن الرفات قبل أن يستكمل التحقيق في علاقتها بمعهد البيولوجيا العنصرية.  ولكن ما هو هذا المعهد وما علاقته بالجثث وبالفنان فيرنر؟

يجيب العم غوغل، ان «المعهد الوطني لعلم الأحياء العرقي»، وهذا اسمه الرسمي، قد تأسس العام 1921، بإدارة لوندبري، الذي سبق له في 1919 أن أقام معرضاً عن الأعراق البشرية بهدف تحذير مواطنيه من الاقتران بالأعراق الأخرى الدنيئة، كي لا يتدهور الجنس الإسكندنافي المتفوق. وقد ساعده في ذلك هانس غونثر، عالم الأنثروبولوجيا والباحث النازي في الأعراق. وبناءً على دراسات المعهد، نُفذت خطة «العقم الإجباري» للخلاص من أقلية السامر ومن الغجر واليهود، ودخل الكثير من الفقراء المرضى والشغيلة والمشردين والمعوقين إلى مختبراته ولم يخرجوا، ومنهم العمال الفقراء من أقارب فيرنر. ورغم قيام البرجوازية السويدية بإغلاق المعهد وتغيير طبيعة نشاطاته، فإنها رفضت، وفي اتساق طبيعي مع الأخلاق الرأسمالية، الاعتراف بالجرائم وتعويض الضحايا.

وفي خضم الضجة التي أحدثها الأمر، كان اليساريون هم الأقل دهشة، لأنهم ببساطة يعرفون بأن قواعد الاخلاق في المجتمع الطبقي تقتصر على ما يحمي مصالح الطبقة التي تحكم وما يضمن هيمنتها المطلقة على المجتمع، لاسيما وقد سجل التاريخ، عدداً لا يحصى من الحوادث الشبيهة بحادثة معهد البيولوجيا العنصرية. وأكدت مجرياته دوماً على أن علاقة الأخلاق والمنظومة القيمية والمعرفية بالرأسمالية تنقلت بين المهادنة والصراع، تبعاً لهويتها الطبقية، حيث استثمرت للحفاظ على البنية الاجتماعية من جهة واستخدمت نقيضاتها لتحقيق العدالة في عالم حر. 

ولأنهم يدركون أيضاً، بأن الملكية الخاصة، التي تعرقل تمتع الإنسان بإنتاجه، هي التي تقف وراء عبوديته واغترابه، وبالتالي وراء فساد القيم، إلى الحد الذي يصبح فيه الربح والكسب هدفاً «أسمى»، ويفصل الميدان الاقتصادي عن الميدان الأخلاقي، ولا يعود هناك معنى لتطوير القيم الأخلاقية عملياً، ويصير الحديث عن نهاية الاستغلال وعدم المساواة وغياب العدالة في العلاقات بين الأفراد والطبقات، هرطقة عند وعي عام متدن، فيما تكون قواعد السوق مصانة ومقدسة.

وينظر اليساري لعلاقة فكرته بالأخلاق باطمئنان شديد، فإلغاء الاستغلال والقضاء على الاغتراب والانتقال من مملكة الضرورة إلى مملكة الحرية، ومن نظام القطيع إلى قيم الآدميين، هي أنبل أهداف بني البشر، الذين سببت الرأسمالية لهم خسائر لا حصر لها، مذ امتدت معاول هدمها وقيود سجونها وجلادي مقاصلها لأعناقهم وعقولهم. 

وأخيراً، ألا تذكرنا علاقة الأخلاق الرأسمالية بالجرائم التي كشف عنها فيرنر، بما ارتكبته الإمبريالية بحق مجتمعنا، مذ تمكنت عصابة من اتباعها من حكمنا، وادخلت بلادنا في اتون حروب لا نهاية لها، وأذاقت اهلنا شرور الجوع والحصار والاستقطاب والتمييز والقمع. الم تثقل كل تلك الكوارث كاهل مجتمعنا، فأضرت ببعض اخلاقياته، وحاولت أن تغيّب وعيه وتنشر بين صفوفه افكار الفردانية والأنانية واللهاث وراء الكسب السريع والنفاق والمنافسة غير الأمينة والطقوسية والزيف وتبرير الوسيلة بالغاية المبتغاة. ألم تشتد قسوة المشكلة حين أُستبدل أولئك بأوليغارشية تنهب البلاد والعباد؟ أليس الأجدر بالجميع اليوم أن يبحثوا عن حلول لما آلت اليه بعض جوانب حياتنا الاجتماعية، قبل فوات الأوان، بدل التشدق «بالرفاه الرأسمالي»؟! 

عرض مقالات: