اتخذت السياسات الإمبريالية الجديدة، التي سعت لتحويل دول أوربا الشرقية نحو اقتصاد السوق، مسارات مختلفة، فُرضت في بعضها الرأسمالية من الخارج كما في هنغاريا، أو فرضت من القمة المحلية كما في روسيا، أو نمت من القاع كما في التجربة الإصلاحية الصينية. الاّ أن ما بقي يجمع بين هذه المسارات، تماثلها مع التراكم الذي حصل برأس المال في القرنين الثامن والتاسع عشر، وتلازمه مع الشكل الديمقراطي البرجوازي، وإن بسمات مافوية، أحيت ما كان يسمّى بحكم النبلاء اللصوص، ممن سيطر “أحفادهم” على المال العام، ومكّنوا المستغلين ثانية من قوت الشعب، وتبنّوا مستويات من القهر الطبقي والفساد، فاقت في قسوتها وبشاعتها ما عُرفت به الرأسمالية الكلاسيكية.

وكان على بعض بلدان الأطراف، وخاصة النفطية منها، أن تعيش بعض توجهات تلك السياسات الإمبريالية، مع فارق مهم تمثل في منعها من بناء علاقات إنتاجية رأسمالية، وفي فرض اقتصاد ريعي مشوه عليها. وتطلبت إدامة هذا الاقتصاد، وجود مافيات “النبلاء اللصوص”، من الفئات البيروقراطية والطفيلية والكومبرادور وسراق المال العام وتجار سوق العملة والمهربين، المرتبطين بالمركز الرأسمالي العالمي، حتى بلغ عدد المليارديرات في بلد كالعراق، على سبيل المثال لا الحصر، 36 فرداً، فيما صار هناك 16000مليونيراً في البلاد، التي لا يساهم الإنتاج الصناعي والزراعي في ناتجها المحلي الإجمالي، بغير 2.0 و4.8 بالمائة على التوالي.

ولأن أغلب هؤلاء اللصوص، جاءوا شبه معدمين إلى السوق، عمدت الإمبريالية على مساعدتهم في استثمار المكانة، التي وفرها لهم ماضيهم السياسي وبعض الأطر الاجتماعية السائدة في مجتمعاتهم وأفعالهم الإدارية وانتماءاتهم الحزبية، لتحقيق التراكم الذي يحتاجوه. وكان ضرورياً أن تتوفر لهم أيضاً مجموعة من الاستقطابات، إثنية وطائفية ومناطقية وقبلية، وأذرع عنفية مقنّونة وشرعية انتخابية مناسبة، كي يضبطوا بها ايقاع الصراع ويغيّبوا عبرها وعي الناس.

وكما تماثلت برامج تأهيل الخصوم، تتشابه مهام قوى اليسار، مع تمايزات يفرضها اختلاف المواقع، حيث ينفرد اليسار المقاوم للطغم الجديدة في دول الأطراف، بمهمة إعادة الإعتبار للهوية الوطنية الجامعة، تلك التي راحت تُمّزق عمداً في هذه الدول أو تنزوي لصالح هويات فرعية، والعمل على صيانة الدولة الوطنية في مواجهة خطط العولمة المتوحشة التي تريد نهشها وتهميشها، وإعادة بنائها نقية واطاراً للمواطنة القائمة على الحرية والعدالة، وليس على أساس القسمة العادلة للمغانم.

كما لا يبدو هناك من خيار لليسار، غير أن يبصر في العتمة، فيخوض كفاحاً دؤوباً، من أجل احتكار الدولة لوسائل عنف غير قابلة للقسمة في ولائها، وإعادة الاعتبار للعملية الانتخابية وتنقية قوانينها ومؤسساتها وإداراتها، وجعلها أداة حقيقية لتعبير الشعب عن تطلعاته ولإدارة شؤونه بنفسه.

ويكتسب الإدراك العميق للمهام، أهمية بالغة، إذ يجنب اليسار إضفاء اي مستوى من الشرعية على توابع الرأسمالية المعولمة، ويقيه من الركون انتظاراً للخلاص المحتوم، ويساعده على تبديد الوهم قبل أن يتسلل لوعي الناس وطلائعها الثورية، ويحصّنه من التهاون مع أي خرق للمساواة أمام القانون ولمبدأ تكافؤ الفرص وللتعددية الفكرية والسياسية ولاستقلال القضاء وللتدخلات الخارجية، وأبرزها، تلك التي تسعى للتحكم بالنزاعات الاجتماعية الوطنية. 

حين تشابه التأهيل، سادت في أوربا الشرقية وفي دول الريع النفطي، اوليغارشية، لا يمكن قطعاً، أن توفر لشعوب هذه البلدان، أية فرص للتقدم أو التحرر أو بناء مجتمعات الحرية والعدالة، التي حلم بها أبناؤها لعقود، مهما أُضيف لها من مساحيق التجميل أو بدا شكلها مقبولاً لدى اليائسين.

عرض مقالات: