كلما سعت قوى اليسار لتشخيص أسباب تواطؤ الديمقراطية البرجوازية مع صعود اليمين المتطرف في الدول المتقدمة والنامية، تعززت شكوكها بوجود فارق جوهري بين الفاشيين والنيوليبراليين. ورغم ما في هذا التشكيك من صعوبة يفرضها التعريف التقليدي للمفردتين، فأن متغيرات العقود الأخيرة، أكدت على أن الفاشية، التي كانت دوماً ملاذ الرأسمالية في الأزمات العميقة، تتوافق تماماً مع الأداء الاقتصادي والممارسة السياسية لليبراليين الجدد، بحيث يصبح عدم وصفهم بالفاشية لأنهم لا يرتدون الخوذ القاسية ولا يتقنون فنون التعذيب مجرد خطأ شائع.

وكان من أبرز تلك المتغيرات، تسيّد رأس المال المالي، وانتاجه نمطاً رأسمالياً متوحشاً، يصارع بكل مخالبه من أجل تقليص وإنهاء مكتسبات دولة الرفاه الاجتماعي، وتحطيم الدولة الوطنية والحاقها بالمستعبد القديم أو أشباهه، ونقل التصنيع المتطور تكنولوجياً والمتخلف قيّمياً لأراضيها واستغلال بيئتها وضعف نظامها الضرائبي ورخص الأيدي العاملة فيها لمضاعفة أرباحه، إضافة لاستهتاره بكارثة التغير المناخي، التي سجلت 432 حدثاً مروعاً خلال العام 2021 فقط، ونجاحه بانشاء وتسليح وتمويل المجاميع الإرهابية وشن حروب التدخل العسكري المباشر في دول عديدة واغتيال واختطاف الناشطين، وخاصة اليساريين في العالم.

ومع الهيمنة شبه الشاملة لرأسمالية الرقمنة، حيث يدير نظام مايكروسوفت 75 بالمائة من الحواسيب في العالم، ويسيطر موقع الفيسبوك على 82 بالمائة من وسائل الاتصال الاجتماعي ومحرك غوغل على 92 بالمائة من سوق محركات البحث، ويشّغل نظام Android  التابع له 80 بالمائة من الهواتف النقالة، تتبنى هذه الشركات أبشع اشكال الإستغلال وحشية، وتُحرم الشغيلة من أبسط حقوقها وتشجع على تدمير النقابات، وتتفنن في سرقة ما عليها من ضرائب للمجتمع، الذي لم تكتف بنهبه بل وبتخريب بيئته ومستقبل أجياله القادمة، رغم امتلاكها لأكثر مما تملكه الولايات المتحدة والصين واليابان وألمانيا مجتمعة.

وقد وفر ذلك كله لأعداء وخصوم العولمة الرأسمالية النيوليبرالية، إمكانيات جيدة على تحديها، بعد أن ظنّ منظروها بأنها أنهت التاريخ بإنتصارها النهائي، وأن يشّنوا نضالاً باسلاً، ليس في الدول الصناعية الكلاسيكية، بل وأيضاً في دول أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، وهو ما ظهر جلياً في انخراط 3.7 مليون إنسان في ألمانيا و 1.7 مليون في إيطاليا و1.5 مليون في فرنسا و1.1 مليون في كندا ومئات الآلاف في أستراليا والنمسا ونيوزيلندا والنرويج وسويسرا والمملكة المتحدة وتشيلي والهند وعدد من الدول الأفريقية، في النضال ضد العولمة وتخريب البيئة وغياب المساواة والعدالة. 

وكان بديهياً أن يثير هذا النمو السريع لليسار ونجاحه في تعبئة قطاعات مختلفة من الشعب حول شعاراته، مخاوف الرأسماليين، ويدفعهم للالتفاف حول أكثر فصائل اليمين تطرفاً، وتوفير فرص مهمة لها للصعود إلى السلطة والدعوة لفرض سياسات تقشفية، تنتزع أغلب فائض القيمة من منتجيها لصالح أقلية تتحكم بوسائل الإنتاج، وتحطم مكتسبات الشغيلة بزيادة ضريبة المستهلكين مقابل تخفيض الضرائب على رأس المال، وتزيد الفوائد كي ترتفع معدلات البطالة وتنخفض قيمة الأجور، وأخيراً تستغل الخصخصة كي تقلل قدرة العمال على النضال لإستعادة حقوقهم المستلبة. ورافق ذلك كله مساع حثيثة لتقليص الحريات وممارسة القمع وإشاعة التعصب العنصري ونشر الكراهية وتشجيع الإستقطاب وخنق الصراع الطبقي بحجة تحقيق الأهداف القومية العليا للأمة.

وإذ تعكس متغييرات الحاضر هذه، بعض دروس التاريخ، وترينا كيف يرتدي الليبراليون الجدد، وأزلامهم في الدول التابعة، جلابيب الفاشية، دفاعاً عن رأس المال، تعزز اليقين من عدم وجود أية أمكانية لأنسنة الرأسمالية في ظل استمرار جوهرها الإستغلالي، المتناقض تناحرياً مع الحرية والعدالة.

عرض مقالات: