عبثاً يحاول النزر القليل الذي بقيّ يدافع عن الرأسمالية، التعتيم على بشاعتها وتسويق الخديعة بقدرتها على تنظيم حياة المجتمعات. ورغم أن الصراع الإيديولوجي مع هؤلاء، بات صراعاً بين اليأس والأمل، فإن مساعيهم قد اكتسبت مؤخراً خطورتها من “نجاحها” في بعث الليبرالية الجديدة وفرض هيمنة المحافظين من ذوي الجذور النازية والفاشية، وإيهام الرأي العام بمسؤولية اليسار عن ارتفاع معدلات البطالة والتضخم وجحيم الركود، وهي بدع، فضح حتى صندوق النقد الدولي زيفها، حين اعترف بأن الربح الفاحش هو ما يقف وراء التضخم، و أن لا علاقة بين هذه الأزمات وبين اطروحات اليسار التي تتمحور حول ضمان مكتسبات الرفاه الاجتماعي وحماية التعددية الثقافية وإضفاء الطابع الديمقراطي على السياسة النقدية وتشجيع الاستثمارات الخاصة بحماية البيئة والعودة إلى التخطيط الاقتصادي المقترن بمستوى من الحرية يتلاءم مع المتغيرات.

إن قراءة بسيطة لما يجري في العالم اليوم، تعكس لنا للأسف مفارقة مؤلمة، بين بقاء أفكار اليسار مزهرةً بحيث بات يفضلها 65 بالمائة من الشباب الأمريكي، وبين صعود متسارع لقوى اليمين الفاشي، وهي مفارقة تعيد التأكيد على أن نجاح اليسار لا يتوقف على أفكاره فقط، بل وأيضاً على قدرته على تعبئة الناس حوله.

فعلى الرغم من أن أغلبية أطياف اليسار كانت قادرة دوماً على دحض الادعاءات التي تصم الاشتراكية بالحلم البعيد المنال، وعلى طرح برامج ومساهمات نظرية حول الهياكل الاقتصادية والسياسية للمجتمع الإشتراكي الجديد، وسبل انهاء هيمنة الرأسمالية على الأنشطة الاقتصادية للمجتمع وعلى أغلب القرارات المتعلقة بما يجب إنتاجه وكميته وأين وكيف ينبغي فعل ذلك ومن سيحصل على عائداته، وكيفية استبدال تلك الهيمنة بما يمكّن الأغلبية من عملية صنع القرار الاقتصادي – الاجتماعي، تبدو القدرة على توفير القناعة في طبيعة التغيير الذي ستحدثه هذه الأفكار وما يمكن أن تنجزه من تقدم، غير متكاملة، بل وبحاجة لعمل سياسي وجماهيري مضنِ. 

ويأتي في مقدمة أهداف هذا العمل إقناع الناخبين بضرورة مشاركتهم في النشاط السياسي الذي يتحكم في حياتهم، وتنمية وعي الناس، والكادحين منهم بشكل خاص، بأن لديمقراطية اليسار، بُعداً سياسياً وآخر اقتصادياً، وأن ما ستخلقه من مؤسسات، هو الضامن الحقيقي لأعلى درجة ممكنة من الحرية المنّظمة لكل جوانب الحياة.

كما يجب أن يستهدف هذا العمل خلق وتعزيز شعبية المؤسسات الإشتراكية، التي ستنهي التمييز الرأسمالي بين العمل المدفوع الأجر وغير المدفوع الأجر، والتمييز الصارخ بين الجنسين، وتقوم بتوزيع أغلب فائض القيمة في خدمات مجانية متاحة للجميع، كالرعاية الصحية والتعليم والنقل والمأكل والملبس والإحتياجات الثقافية والروحية و بناء وصيانة المساكن والكهرباء والطرق والصرف الصحي والإنترنت والعناية بالأطفال وكبار السن والمرضى، و كيف ستنظم هي، وليس أصحاب رأس المال، ما الذي يجب انتاجه ونوعيته وحجمه، مستندة إلى الرأي المباشر للمجتمع، الذي سيبديه بحرية تامة، مع ضمان مكان ودور للقطاع الخاص، لينتج ما لا تهتم تلك المؤسسات بإنتاجه.

ولتحقيق اليقين بصحة أفكارهم المتجددة، لابد أن يتمثلها الدعاة اليساريون في حياتهم ونضالهم، وأن ينهلوا من قيم الوفاء والإنضباط والوحدة التي جُبل عليها أسلافهم ومعاصروهم، وأن يتقنوا فن الإصغاء للناس ويجعلوا مهمة توسيع وتقوية الصلة بهم والتعلم من تجاربهم، الساحة الوحيدة للمنافسة النضالية، التي ستؤمّن لهم الحصول على كاريزما مناسبة في الوسط السياسي والثقافي والاجتماعي، وتجعل صوتهم مسموعاً ومهابا. إن جمال أي فكرة لن يكتمل دون أدوات سليمة وقوية، تغرسها في وعي من وُجدت لإسعادهم.

عرض مقالات: