اخر الاخبار

علم الاقتصاد كما جاء في الكتب المنهجية، هو دراسة كيفية تحديد المجتمع لما سينتجه وكيفية انتاجه والمستفيد من هذا الانتاج.

من ناحيةٍ أخرى، تُوجدُ داخل الاقتصاد فلسفة ميادينُ تخصّصية تُقدّم بعضًا من التقاطُعات: كنظرية المؤسّسات، وتحليل الحُكم والسّلطة، دراسة العقلانية، دراسة أشكال وإجراءات التعاون الاجتماعي، العدالة في التوزيع والوقف، الحيطة والحذر في التعامل مع البيئة أو النظم التقنية، إلخ.

أن ثمةَ “تبادُل للإشكاليات” بين الفلسفة والعلوم الاقتصادية، هذا التبادل الذي يدلّ بوضوح على ثمرة الانفتاح على الفلسفة، من وجهة نظر الاقتصاديين. وهذا على الأرجح هو ما يهمّ أكثر إن كنا نتساءل عمّا يُمكن أن تمنحه الفلسفة للاقتصاد اليوم. في الواقع، قد منح بعض الفلاسفة مادّة خام للعلوم الاقتصادية. فالنظرية الفلسفية للقياس كانت هامة في تطوير النظرية الاقتصادية لدالاّت الرّفاهية. ولننظر أيضا لنظرية الأعراف/التقاليد لديفيد لويس، الذي كان مصدر إلهام بالنسبة لعلماء الاقتصاد. الأسئلة الفلسفية العميقة المُثارة بانتظام من هربرت سيمون في سياق أعماله لها روابط مُباشرة بإسهاماته على الاقتصاد وما أعقبها.

وتساهم فلسفة الاقتصاد بطريقتها الخاصة في الفهم السليم لهذا التنوع وإقامة جسور بين رؤى العالم. تُساهم كذلك في إدخال المزيد من التنوع الثقافي داخل عالم الفكر الاقتصادي أو عالم الفكر السياسي المُرتبط بالاقتصاد.

ومن المفيد تقسيم فلسفة الاقتصاد بهذه الطريقة إلى ثلاث موضوعات يمكن اعتبارها على التوالي فروعًا لنظرية العمل والاخلاق أو الفلسفة الاجتماعية والسياسية المعيارية وفلسفة العلوم والنظريات الاقتصادية من العقلانية، الرعاية الاجتماعية والدفاع عن الموضوعية الفلسفية تشكل أطروحات في كثير من الأحيان أبلغ من الأدب الفلسفي ذات الصلة والتي تهم واضحة للراغبين في نظرية العمل، وعلم النفس الفلسفي، والفلسفة الاجتماعية والسياسية.

وقد طرحنا أسئلة في الصميم في مقالنا حول أسباب ذلك النقص الواضح، هل المسألة راجعة لموقع الفلسفة في المنظومة الاقتصادية وحيثيات تدريسها أم أن المسألة مرتبطة بنظرة المجتمع للفلسفة وللمشتغلين بها؟ أم أن الأمر مرتبط بالمنشغلين بالفلسفة أنفسهم من حيث تكوينهم ومراميهم من وراء الاشتغال بالفلسفة؟

بداية نسجل بكل أسف غياب دراسات حول الفلسفة الاقتصادية في العراق عموما وحول النصوص الفلسفية العراقية على وجه الخصوص، عدا بعض المقالات أو الكتب المخصصة لدراسة بعض أعلام الفلسفة الاقتصادية في العراق، وهذا الغياب برأيي موجع لأنه يطيل في معاناة الفلسفة الاقتصادية من التهميش والازدراء ومن ثم يغلق باب الاستفادة مما تتيحه من آليات تفكير ومبادئ منهجية أساسية للتفكير السليم والتخطيط الفعال.

ان غياب الفلسفة عن الاقتصاد العراقي ينذر في الانهيار الكبير للاقتصاد العراقي عندما ينهار سعر النفط في السوق العالمية مما يهدد بعواقب اقتصادية واجتماعية كبيرة على العراق حكومة وشعبا، وقد يهدد هذا التطور السلم الاجتماعي الذي استثمرت فيه السلطة عائداتها البترولية لضمان الاستقرار وحكمها أيضا.

حيث يتخوف معظم العراقيين من المخاطر الاقتصادية التي ستواجهها البلاد عند تدهور أسعار النفط في السوق العالمية، في بلد يعتمد اقتصاده بنسبة 99 بالمائة على عائدات تصدير الذهب الأسود، رغم تطمينات الحكومة بأن احتياطاتها من العملة في وضع جيد، إلا أنها في الوقت ذاته اتخذت جملة من الاجراءات التقشفية في النفقات العمومية، تمس بصورة مباشرة المواطنين محدودي الدخل والخدمات التي يستفيدون منها، بما في ذلك الشباب العراقي، الذي طالما انتظر وعود الحكومة وحل مشاكله المرتبطة خصوصا بموضوعي البطالة والسكن.

أن النفط في العراق أصبح يشكل مصدر قلق العراقيين، وأضحى لعنة عليهم في ظل غياب العقلانية والرشادة والفلسفة في تسيير موارد هذا القطاع الحيوي لبناء قاعدة اقتصادية قوية.

وقد ساهمت انتفاضة تشرين الخالدة في اتجاهاتها ومضامينها الاقتصادية في إعطاء الأولوية للإصلاحات الاقتصادية على الإصلاحات السياسية، وأكثر من ذلك، جرّد برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي طبّقه رئيس الوزراء الحالي الكاظمي التوجهات الاقتصادية التي كان من المزمع اتخاذها ويأتي في مقدمتها الاتفاقية الصينية لرئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي بإيعاز من المؤسسات المالية الدولية، والكاظمي في جهوده تلك يهدف إلى مساعدة الاقتصاد العراقي على الوقوف على قدمَيه من جديد، لكن إدارة الكاظمي وجدت نفسها في وضع غير مريح تُضطَرّ معه إلى تمويل برامج اقتصادية تتعارض مع مبادئ السوق الحرّة لغياب فلسفتها الاقتصادية حيال ذلك.

لكن لن يكون من السهل تغيير فلسفة النظام الاقتصادي في العراق فيما لو تم الإبقاء على التوجّه الاقتصادي للنظام القديم، حتى ولو كان ذلك التوجّه نقطة مشرقة في إرث الكاظمي على الأصعدة الأخرى. والتحوّل نحو منظومة سوق حرّة تؤمّن بيئة مؤاتية للاستثمارات الأجنبية ومندمجة في الاقتصاد العالمي. فقد كشفت بهذا الخصوص مجلة “غلوبال فاينانس” المختصة بتصنيف دول العالم، أن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في العراق لعام 2020 يلغ 4.372 فيما بلغ معدل نمو للناتج المحلي الإجمالي في العراق لعام 2019 عند 3.914 %”. وبينت ان “أعلى ارتفاع لمعدل نمو الناتج المحلي الاجمالي في العراق كان في عام 2016 حيث بلغ 15.199 %”، مبينة ان “معدل التغيير لمعدل النمو للناتج المحلي في العراق خلال عشر سنوات والتي تبدأ من 2011 ولغاية 2020 بلغت 4.345%”.

وننوه أن الناتج المحلي الإجمالي لبلد ما يعرف على أنه إجمالي القيمة النقدية للسلع والخدمات المنتجة داخل حدودها في السنة، ويتم التعبير عن نمو الناتج المحلي الإجمالي كنسبة مئوية.

وربما لا مفرّ من تقديم قروض إلى العراق من أجل تمويل الإعانات المالية بالرغم من تعافي اسعار النفط العالمية، لكن ينبغي على صانعي السياسات الاقتصادية الالتزام في وضع خطط أكثر استدامة من أجل إعادة إطلاق عجلة التنمية والإصلاح.

صحيح أن محاكمة الفاسدين خطوة مهمّة نحو إرساء عملية سياسية أكثر شفافية ومساءلة، لكن من غير الواقعي الاعتقاد بأن مصادرة المليارات الضائعة وإعادة توزيعها ستحلاّن المشاكل البنيوية الخطيرة التي يعاني منها العراق. علاوةً على ذلك، يتعيّن على الحكومة تقديم معالجة بديلة وناجعة عن تأمين وظائف حكومية لكلّ الخرّيجين الجامعيين، والتي من شأنها أن تلقي بأعباء لا تُحتمَل على كاهل الحكومات في المستقبل. ما يحتاج إليه العراق الآن هو خطّة عمل جديدة للتنمية المستدامة، على أن تضم سياسات لمعالجة عدم المساواة البنيوية وإصلاحات شاملة لإنعاش نظام تربوي متعثِّر فشل في إبراز قوى عملية فنية وادارية لسوق العمل والتي تزداد تنافسية.

قد لا تُحقِّق برامج الإصلاح الاقتصادي الاستدامة إلا إذا ترافقت مع تحسينات موازية في الظروف السياسية وسيادة القانون. ربما كانت منافع الإصلاح الاقتصادي البنيوي في العراق لتصل في نهاية المطاف إلى المواطنين في أسفل الطيف الاقتصادي الاجتماعي لو أن الوقت لم يداهم البرنامج بسبب التململ الشعبي المتعاظم من الفساد وهدر المليارات.

يأتي دعم وتنشيط الاقتصاد العراقي في إطار خطاب حكومي وإعلامي رسمي يعكس عقد الحكومة العراقية لآمال وتوقعات كبيرة على نجاح جذب الأموال التي يحتاجها الاقتصاد للخروج من أزمته المالية، هذا في الوقت الذي تحتاج مجموعة الأسس الإستراتيجية التي تقوم عليها نظرة الدولة إلى الاستثمار، إلى مراجعة تهدف من ناحية إلى إدارة الأزمة المالية للدولة، وتهدف من ناحية أخرى إلى مواجهة المشكلات الهيكلية الموروثة من الماضي،  في إطارٍ غياب قواعد الديمقراطية والمشاركة والشفافية والمساءلة، التي تشكل العقد الاجتماعي الأكثر رصانة بين الدولة والمجتمع.

لقد ظلت فلسفة استهداف النمو كمؤشر وحيد لقياس أداء الاقتصاد الوطني حاكمة للإدارة الاقتصادية لفترة طويلة، ومن ثم الدفع بالمزيد من الاستثمارات عن طريق الحوافز الضريبية والحوافز المتعلقة بتسعير الأصول المحلية وتخصيصها، وحماية المستثمر، وهي الفلسفة ذاتها التي انعكست في المسودات التي تم تداولها في قانون الاستثمار، والفلسفة الضريبية المصاحبة له، التي اعتمدت على تخفيض سقف الضريبة، هذا مع الإبقاء على دعم الصادرات في ظل عدم تمتع هذا الدعم بأية شفافية حول الصناعات المستفيدة حقيقةً، ومدى فاعليته، وحاجته إلى مراجعةٍ من حيث الهيكل والمنتفعون، ولكن دون تنوع أو انعكاس على التنمية والعدالة والتشغيل، وهو ما يثير أسئلة متعددة حول نوعية الاستثمارات ومدى قدرتها على خلق تنمية حقيقية .

هنا ينبغي التوقف للمراجعة، فإن زيادة الاستثمارات في الدولة من المفترض أن تنبني على فلسفة تضمن تحقق وخلق فرص عمل مرتفعة الجودة، وزيادة الحصيلة الضريبية، بالإضافة إلى زيادة موارد النقد الأجنبي وتخفيف الضغط على العملة الأجنبية.

حيث يعد استقرار الاقتصاد الكلى شرطا ضروريا من أجل التنمية والنمو، ومع ذلك فإن التوصيات المتداولة من المنظمات الدولية حول الشروط التي تشكل ادارة جيدة للاقتصاد الكلى لتحقيق الاستقرار، كانت ضيقة إلى حد بعيد. وفى الواقع، قد أدت في العديد من الدول النامية إلى نتائج على عكس ما كان مرجوا منها.

من الضرورة التركيز الواضح الذي تضعه الأمم المتحدة والمجتمع الدولي على تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية والحاجة لتأمين تمويل كاف لعمليات التنمية قد دلت على الحاجة إلى تغيير التركيز في أساليب إدارة الاقتصاد الكلى في الاقتصادات النامية المفتوحة على النحو التالي:

- تطوير سياسات الاقتصاد الكلى ضمن إطار منسق، وبحيث تكون السياسات المالية والنقدية وسياسات سعر صرف العملة المحلية وإدارة حساب رأس المال في ميزان المدفوعات متجانسة مع بعضها البعض.

- يجب أن يكون الأفق الزمنى متوسط المدى، تنظم استراتيجيات الاقتصاد الكلى والانفاق العام.

- خلق فرص العمل بأهمية خاصة، وأن لا يتم التضحية بها من خلال التركيز الضيق على استقرار الاقتصاد الكلى والسيطرة على التضخم.

- الاقرار بأهمية الإنفاق العام وتوجيهه نحو القطاعات الحيوية لبناء رأس المال الاجتماعي.

- يجب أن تتماشى السياسة النقدية مع السياسة المالية، وليس العكس، ويجب أن تكون آلا السياستين موجهة نحو اهداف اقتصادية حقيقية مثل خلق فرص عمل وحماية أسباب المعيشة وتوسيعها وتقليص رقعة الفقر.

ــــــــــــــــــــــ

* كاتب عراقي