اخر الاخبار

لابد من اشارة جوهرية حول العلاقة بين المنفى ، وآلية التعبير عنه وهذا لا يعني التركيز على المكان ، الذي وفد اليه المنفي لأسباب عديدة ، واهم الأسباب  الموقف السياسي المعارض للنظام الدكتاتوري وعدم القدرة على الإعلان عن كراهيته، بل على العكس اقترانه بعلاقة رومانسية متوترة بالحنين ، الوطن الذي يعني البيت ، وما ضم من افراد العائلة . ومثل هذه المشاعر فوارة وحساسة ومتوترة بالاستذكار ، والاستعادة وتخيل ما حفظته الاماكن في الوطن ، وتذكر تصورات كثيرة عن الاصدقاء وما عرف في حياته منذ الطفولة وحتى الشباب ، ولحظة لاستدارة والمغادرة هروباً وسط حشد من الوساوس والهواجس ومخاوف ترصدات شبكات الامن والمراقبة التي عاشها الكائن طويلاً ، حتى اللحظة الحلمية التي حط فيها وسط مكان لوح له بالأمان والسلام . لكن هذا لا يعني حصول نفور عن المكان المغادر ، بل العكس اشتداد الحنين والنواح عليه والذي يتخذ اشكالاً متنوعة وعديدة في التعبير عنه ، الكتابة ليوميات رسائل ، تخطيطات فنية هي شفويات التشكيل كما اطلقت عليها انا ، تسجيلات صوتية ، اغان ودندنات وهذا تمظهر متمركز في تجربة مثقف مثل كامل شياع .. الرسائل وسيلة تعبير صادقة ومركزة مثل التي ارسلها لأخيه مصطفى وتميزت بلغة هادئة ، ذات رنين شعري ، او تكاد تكون خلاصات شعرية وقد ازدحمت رسائل دفتر المنفى بها حتى كاد ان يحول تدوينات للشعر والثقافة المعنية بحوار الافكار ومناقشة الظواهر الجديدة التي عرفها في مكان غريب وجديد ، بمعنى اكتسب كامل شياع صفة المنفي “ صحيح ان كل من يحال بينه وبين العودة الى دياره هو منفي “ وكما يجد المنفى اصله في عمليات الطرد القديمة جداً . وما ان يطرد حتى يعيش المنفي حياة شاذه وبائسة موصوماً بوصمة الخارجي ..... في حين تنطوي كلمة “ المنفي “ كما ارى على لمسة من العزلة والروحانية كما قال ادوارد سعيد.

اول ما عاشه المنفي في المنفى ، هو الرصد ، والمراقبة والمعاينة ، من اجل الضبط الامني والتحقق من القبول بالمكان والتعايش فيه والتدرج في التعرف عليه واكتساب ما يساعده على التواجد .  وحتماً تهتم مؤسسات المنفى ، المسؤولة عن الحماية العامة لكل الافراد ، وترصين الحياة لتوفير كل ما هو مطلوب ويحتاجه الافراد والجماعة ، وتنشط المؤسسات المختصة بالمراقبة ، لأن قضية المعاقبة سلطة ظاهرة موجودة ، في كل مكان ، في العالم . لذا تنشأ فوارق وسط المنفي بين كل الذين حصلوا على الاقامة ولابد وان يتمكنوا من استكمال المطلوبات لكل من واحد بوصفها شروطاً ملزمة حتى يحوز على ما يساعده على البقاء . من هنا تبرز فوارق بين الموجودين وهذا ما المح له المفكر ادوارد سعيد “ المنفيون ينظرون الى غير المنفيين نظرة استياء وسخط . فهم ينتمون الى محيطهم ، كما ترى ، اما المنفي الغريب على الدوام . فما الذي يعنيه ان تولد في مكان . وان تمكث وتعيش فيه ، وان تعرف انك منه ، الى ما يقارب الابد ؟

المنفي مراقب ، مرصود ، ملاحق بعيون تقنية ، واخرى بشرية ، للتأكد من سلامة وجوده ، لأنه موضوع تحت المجهر الذي لم يعرفه عندما كان في وطنه ، لذا كتب الى ولده “ الياس “ رسالة تحت عنوان “ حين نكون في بغداد : اكتب اليك من البيت المجاور لبيتك الصغير . فأنا منذ ثلاثين شهراً اختفي هناك ... هرباً من البرد والمطر واحتجاباً عن عيون اهل لويفن الذين ملوا رؤية الاجانب بينهم . من ذلك البيت اخرج من وقت لأخر لألقاك حاملاً حقائب السفر ، متظاهراً بالقدوم من بغداد . وما هي الا ايام حتى يحين موعد سفري ، فيرشح في النفس حزن ثقيل ، واختفى من جديد ، انها لعبة مشوقة ، جربتها وانت تلعب مع اقرانك لعبة الاستغماية . اي قلق يحمل الاختباء . اي حماس يثير اعلان الظهور ؟ هذه هي لعبتي المتواصلة معك منذ ان اوهمتك بانني عائد الى بغداد . لكنها ليست اللعبة الوحيدة بيننا ، فأثناء الاختفاء لا اكف عن مراقبتك من ذلك الثقب ، فأراك وانت تسرد لي اخبار يومك او تستمع الى حكايات الجنون في بغداد / اعداد وتقديم مصطفى عبد الله / دفتر المنفى بين النزل والبيت / كامل شياع / ص105 .

ان عالم المنفي الجديد هو عالم غير منطقي وطبيعي تشبه الواقعية التي يتسم بها عالم القص والتخييل . ولقد تشدد لوكاش في نظرية الرواية ، على ان الرواية ذلك الشكل الادبي ، الذي يخلق من لاواقعية الطموح ، والاستيهام ، هي الشكل الخاص بــ “ التشرد المتعالي ... لا نجد في الملحمة اي ذلك الذي خلفه وراءه ، او خلفته وراءها الى الابد وفي حين لا نجد في الملحمة اي عالم اخر ، وانما ابرام هذا العالم فحسب ، حيث يعود اوديسيوس الى اثياكا بعد سنين من التجوال وحيث يموت اخيل لأنه لا يستطيع الفرار قدره المحتوم / ادوارد سعيد / تأملات حول المنفى / ص127 .

واضاف ادوارد سعيد يقول : والمنفي ، اذ يتشبث باختلافه مثل سلاح سيستخدم بعزيمة لايلين ، انما يلح بغيرة على حقه او حقها في رفض الانتماء ، وعادة ما يتحول هذا الى ضرب من العناد الذي يصعب تجاهله . فالتصلب والغلو والاسراف ، تلك هي الاساليب المميزة لكونك منفياً ، ... يمكن ان نرد قسطاً وافراً ، من الاهتمام المعاصر بالمنفى ، الى ذلك التصور الباهت بعض الشيء يرى ان بمقدور غير المنفى ان يشاركوا المنفيين ، منافع المنفى بوصفه موتيفا من موتيفات الافتداء ، والحال ، كما ينبغي ان نفرّ ان ثمة شيئاً من المعقولية والحقيقة في هذه الفكرة / ن . م / ص129 .

لم يكن كامل شياع سعيداً بالمنفى ، ولا راضياً لما هو فيه ، على الرغم من ان الآخر ساهم بتوفير اجواء للتأهل الثقافي والفني ، ومكنته من استكمال دراسته . لكن المنفى يظل . واعترف كامل شياع برسالة الى صديقه علي في مدينة لويفن قال له : امل ان تكون على احسن ما يرام ... منذ فترة احدها طويلة لم نتبادل حتى السلام ، ولا غرابة فالمنفى قد حول فعلاً “ بقوة سحرية غير منظورة ؟ “ الصمت الى قاعدة ذهبية للحضور واحال الكلمات الى موقع لا مكان له من الاعراب.

اننا بادئون بأعراب صمتنا / فيصل عبد الله / ن . م / ص114 .

هذا مقطع مركز ، وهو جزء من رسالة ، اختصر به كامل الموقف من المنفى ولكنه وقابل بالوجود فيه . يبدو ان رسالة كامل لصديقه علي في مدينة لويفن تشف عن مخاوف ليس كامل وحده بل الكثير من المنفيين وما قاله بالرسالة : “ امل ان تكون على احسن ما يرام “ وما يكشف عن القلق والاضطراب بسبب عدم استقرار الحياة التي يسودها القلق والخوف . فحياة كامل ــ على سبيل المثال ــ ملونة بزياراته لعديد للمدن والارتحال ، تعبير عن عدم الاستقرار ، وكلما اتسعت الجغرافيا تضخم الخوف ، وفقدان الامان . ودائماً ما يكون المنفي خارج المكان وداخل الزمان . لذا مضى وقتاً طويلاً لم يتبادل السلام مع علي واوجد تبريراً لذلك : لا غرابة فالمنفى قد تحول فعلاً قوة سحرية غير منظورة “ وتحول الصمت الى نظام ، خسر فيه الكائن المنفي الحوار مع الآخر وفي هذا تعطيل لملامح الهوية التي اعتقد العديد من المعنيين بانثربولوجيا الهوية الى انها معطى خام وخال من العناصر الدالة على الانثربولوجيا ، وان السياسية هي من يتوجب عليها التعاطي مع هذا الواقع الهووي .

الارتحال الذي يتكرر ، شكل من ثقافة العبور ، الى جغرافية جديدة ، وعلى سبيل التدليل سافر كامل الى لندن واشار لذلك برسالة جديدة الى علي “ بقيت محصوراً في مكان صغير قريباً من سكني . ولكني رأيت وجوهاً كثيرة اعرفها ... عراقاً مصغراً ، مهذباً .. مضطراً الى اللجوء الى الماضي “ الى ابو ناجي “ .

اشياء ، فرص ، ثقافية كثيرة في لندن ينبغي رؤيتها .... اول ما سأزوره هو معرض اوتوديكس الرسام البولوني . ولكن الاشياء الكثيرة قد لا تسمح احياناً برؤية شاملة او متأملة / فيصل عبد الله / ص115 . هذا المقطع من الرسالة يؤكد ما ذكرته من خصائص ثقافية وفنية صاغت شخصية كامل ، بتنوعات ومشاهدات وزيارات ، تعطي لزمنه قيمة ، تمنحه تجدداً ثقافياً واكرر ما قلت حول كامل اذا اردنا وصفه مثقفاً نموذجياً ، فما ذكره في رسالته عن رحلته الى لندن نعدها ، دالاً على تميزه وحيازته ، على سيرورة . لكن كثيراً من المثقفين العراقيين الذين عاشوا بالمنافي حافظوا على تجاربهم الادبية في الشعر والسرد وحوارها لكن عنايتهم الثقافية والفلسفية وتعددات المناهج ظلت محدودة.

عرض مقالات: