اخر الاخبار

بعد تراكم القيم الكّمية وتداعيات التراجع والنكوص التي شهدها الواقع منذ انهيار معادلة القطبين، والشروع في عالم أُحادي هـش وبرّاق تمثّل بمرحلة (النيولبرالية)، وتجلّيات العولمة واسقاطاتها التي تمثّل ذروة التوحّش الرأسمالي والامبريالي، وبعد مرحلة سقوط الآيديولوجيات وإعادة تقييم العالم على وفق مشروع الشرق الأوسط الجديد، وبعد الحروب المفتعلة وتفكيك الهويّات، وخلط الأوراق والتحكّم بالعالم بمنطق الغزو والاحتلال والتسويغ لمصادرة الآخر، وسياسة التدجين، والترويض الأميركي وحلفائه الأوربيين والقوى الرجعية العالمّية، كان لابدّ لاستراتيجيات الوعي الثقافي والتصدّي الفكري والإنساني لهذا التداعي والانكفاء من أن يقف ويقدّم رؤية تجسّد جدل المقاومة المعرفية لإيقاف هذا التدحرج المبرمج، وجعل منطق الثقافة وفواعل العقلانية واستثمار المعطيات الابستيمولوجية والجمالية ليس لإدانة هذه التداعيات بل التشابك معها، وإعادة السؤال وإعادة اكتشاف الوعي وإعادة تشكيل العقل والواقع والتمظهرات وتقديم استراتيجية تسهم في تحريك دلالة التغيير والتعبير عن الرفض واستشراف مديات جديدة ونوعية لمجمل الواقع، لاحتواء هذا الهدم القصدي والمؤدلج .حتّمت ظواهر الواقع أن يتم اللّجوء إلى (الفاعل المعرفي) والقدرة الثقافية على تقديم رؤى ومشاريع موازية، لخلق صراع يكشف بهتان وبراغماتية قصديات القضم العالمي التي تستهدف الإنسان ووعيه قبل استلابه واختزال وجوده بصيغة الاستهلاك والغرائزيّة والوجود غير الفاعل، ووعي الحلول أو تقديم البدائل عبر فاعلية العقل والثقافة وتمثّلاتها يُعدّ نوعاً من الوعي النوعي، والفاعل لتحقيق التوازن المفقود وإدانة وفضح العقل المتداعي البراغماتي وتوجّهات في الاستغلال ومصادرة الحرية وتسويق الزيف المبرمج بتوظيف كل أشكال (الدوغما) السياسية والثقافية عبر الشعارات والطروحات الملفّقة، ومشاريع الخداع العولمي . ولقد كانت حصّة الشرق الأوسط والعراق على وجه التحديد كبيرة على مستوى الاستهداف والنتائج الفادحة بما شهدته مرحلة الاحتلال البغيض وافرازاته المدمّرة في تفكيك البنية الكلّية للمجتمع وغياب المنظومة القيمية وصعود قوى التسلط والاستئثار والظلام، وتجسّد ذلك على شكل ظواهر، وارتكاس بنيوي في مختلف ميادين الحياة السياسيّة والاقتصادية، والثقافية والاجتماعية والسايكولوجية ممّا أحال إلى استنهاض دور الفواعل الثقافية وقصديّة الوعي وتفعيله لترميم الواقع والنهوض به، عبر تفكيك منظوماته السلبيّة وتأشير مواقع الاحتلال والضعف والهشاشة ومحاربة الهيمنة السلطويّة الآيديولوجيّة، وما يترشح عنها من تضخّم الخرافة والتهميش، وغياب الوعي والدور الثقافي. شرع عدد من المثقفين في وضع استراتيجيات، وصياغة مشاريع تُعيد تشكيل الواقع عبر الاستنطاق والجدل المعرفي وإثارة أسئلة التغيير وتفعيل مشاريع التنوير، وإرادة التغيير الأمثل من خلال استثمار سلطة (المعرفة) وإشكالية الصراع مع هيمنة العقل التسلّطي الانفرادي، وكان المشهد قد شهد تحريكاً، وتفعيلاً لدور الثقافة في إعادة بناء المفاهيم وإعادة بناء القيم الإنسانية، وإعادة اكتشاف الذات المؤطّرة بالوعي لصنع واقع وتوجّهات جديدة انطلاقاً من الإيمان بأنّ المثقّف هو دور حيوي وليس وظيفة، وإنّه الفاعل والمؤسس والمؤثّر وليس مجرد ذات تقبع في الأبراج العاجية وتجترّ بضاعة الثقافة الهامشية والبلاغة اللّفظية الزائفة، فالثقافة فعل وموقف ووعي ونزوع قصدي لتأسيس عالم يختلف عن عالم الزيف والمصادرة والاستغلال، وقد تجسّد دور المثقف والثقافة العراقية في أنّها وقفت مع القيم الدالّة ومع مشاريع التنوير وتثوير الواقع ولم تكن ظهيراً لقوى الظلام المستبدّة، وقد أسهم وعي المثقفين في الرفض وفضح مشاريع الاحتواء التسلّطي بوجود وسائل ومدّونات ومنجزات الثقافة في الرواية والشعر والنقد والمسرح والتشكيل بغية تأسيس عقل ثقافي نقدي مضاد يمثّل خصائص استثمار الوعي بوصفه قوّة ضد كلّ أشكال الزيف والميتافيزيقيا، وبقايا الآيديولوجيا، وقوى الظلام والطبقات الطفيلية التي تحالفت مع منطق الاحتلال، ومن بين المشاريع المهمة والمؤشرة كان الجهد النوعي والنقدي القصدي الفاعل الذي أسس انطلاقته الشاعر والمفكّر (جمال جاسم أمين) بوصفه مثقفاً نوعياً وعضوياً فاعلاً أدرك بحسه خطورة المعنى الثقافي في التأثير وإحداث التغيير وضرورة التصدّي لثقافة التدجين والخراب، وكانت البداية مع مشروع استراتيجي معرفي وسؤال وجودي وقيمي تجسّد عِبر مقال نشره بشكل مبكَّر ووضع فيه اللّمسات أو الانبثاقات الأولى لمشروع أو استراتيجية (البديل الثقافي) التي سعى فيه (جمال) بعد ذلك إلى تنضيج التوجّه ووضع كثيراً من الإضافات ودينامية الوعي المتعدّي والمنتج والمتعدد، وقد نُشرت مقالة التأسيس المبكر للمشروع في صحيفة (الأديب) العراقية تحت عنوان دال ومؤثر هو (مفهوم البديل الثقافي وتفكيك فكرة المؤسسة) في 13/7/2005، وقد أشار فيه إلى ضرورة إزاحة الأدلجة المؤسساتية، وكل ما من شأنه أن يعيد الواقع إلى الوراء وإلى المراوحة والسكونيّة والقطيعية على كل مستويات الحياة وبكل أبعادها المتعددة ومحاولة استعادة النزعة العقلانية والدور المعرفي للعقل النقدي المضاد لتجاوز الطروحات الآيديولوجية والميتافيزيقية وأوهام الخرافة وتزييف الوعي الاجتماعي، والسعي إلى إثارة الاحتراب، والكانتونات الطائفية والمكوناتية والأعراف القبائلية التي تقف حجر عثرة أمام أي تطلّع أو صيرورة مغايرة وتفكيك وإدانة أي نزعة متمركزة، وفضح مشاريع التدمير والتقويض من خلال تجسيد دور الوعي في تشكيل الواقع الموضوعي والإنساني، ممّا حتّم أن تكون اشتراطات وطقوس وتوجّهات مشروع (البديل الثقافي) تتجّه إلى التمركز حول الوعي النقدي المضاد، وإلى التنوير والتفكيك والتأشير لفضح الخطاب المؤسساتي والخطاب البراغماتي الرّث والمنتمي إلى رداءة الخطاب الكلّي والاستهدافي والنفعي، خطاب الإدماج وثقافة الإرغام والتّسويق المؤسساتي.

وقد ركز مشروع (البديل الثقافي) على التمركز حول الوعي النقدي المضاد، وإلى التنوير والتفكيك والتأشير لفضح الخطاب المؤسساتي والخطاب البراغماتي الرّث والمنتمي إلى رداءة الخطاب الكلّي والاستهدافي والنفعي، خطاب الإدماج وثقافة الإرغام والتّسويق المؤسساتي. وأكد مشروع (البديل الثقافي) على تعميق الحس الإنساني والوطني للتنّوع الإثني في العراق وتحويله إلى قوّة للتماسك والعمق وليس وسيلة للتمزق والتشظي السيوسيولوجي فضلاً عن تفكيك كل قصديات الاستبداد والترهيب والتمركز (الكلياني) اجتماعياً وسياسياً، ودينياً، وتفعيل دور التنوير المعرفي في محاربة الجهل والخرافة والأسطرة وسرديات الزيف لأنها عامل معطّل لكلّ تغيير، والتأكيد على النهوض بالإنسان وقيم الحياة من خلال تفعيل مفهوم (الأنسنة)، فهو العنوان المركزي للتخلّص من حمولات الأدلجة والزيف والعقل النفعي الجزئي، وتفعيل دور المثقف بوصفه المشرّع لكلّ تغيير، وعدم تماهيه مع تيارات، وتوجّهات تفقده دوره، وحرّيته، وفاعليته والعمل على الاهتمام بقيم الحرية والتحرّر والتفكير النقدي المنتج وممارسة كلّ المساعي التي توظّف الفعل الثقافي بشكل سلبي يخدم مشاريع العتمة والخراب .

لم يكتفِ المفكر (جمال جاسم أمين) بهذه الطروحات والبيانات على مدى ما يقارب العقدين من الزمن بل كشف عن دور المثقّف المعنوي الفاعل عبر تفعيل المشروع وإشاعته وجعله دليلاً عملياً وفكرياً لكثير من المشاريع والتوجّهات المتناغمة مع تأسيساته ومفاهيمه ونشاطاته، وقد تناغم هذا المشروع مع تطابق وتفعيل الثقافة على مستوى الإبداع الثقافي لتحقيق معادلة أنَّ وعي التغيير والتنوير يتطلّب إلى جانب التنظير وصياغة التأسيسات وجود إبداع معبّر ومرتبط عضوياً بهذا السعي فكانت أعمال (جمال) الشعرية ومؤلفاته الثقافية والمعرفيّة نوعاً من وجود النسق الثقافي بوصفه بديلاً ووجهاً من وجوه الوعي متعدّد الأبعاد.

عرض مقالات: