اخر الاخبار

تتواصل فاعلية الانبثاق الشعري في تجربة الشاعر (ريسان الخزعلي) في مجموعته الشعرية (نزهة في السواد) الصادرة عن منشورات اتحاد الأدباء- بغداد 2022، وهو يتمركز باشتغالاته وتنوع تحّولاته إلى تأسيس نسغ يجعله يغرّد خارج السرب التقليدي، ويستشرف فضاء يمنحه نوعاً من التفرّد في تشكيل قصيدة تستلهم مبثوثات جمالية ودلاليّة وعلى أكثر من مستوى تعبيري وفكري لتولد قصيدة مشاكسة بما تثير من جمال السؤال ونهوض الرؤية، وما تثيره تلك التوليفة البارعة من السؤال المنتج الذي يتحول إلى جوانب بليغة، ومن استعارة اليوميّات ونسق الذات ومحايثة الوقائع والتاريخ، والتماهي مع الشخصيّات والرموز، مما يؤدّي إلى كولاج شعري، يجمع الجزئيات ليقدّم ومضة كاملة الإرسال الذهني والإشراقي، وهو ينتقي بأناة وبراعة لون المفردة وطعمها ورائحتها، ولا تجد مفردة في شعره بلا إشارة أو معنى انزياحي أو علامة تؤشر لمعنى عميق ، إنّه يحفز المتلقي ويجعله يبحث عن أفق جمالي ليمسك بالمعنى الغائر والمحلّق في آن معاً. يبدأ فعل المشاكسة وشعرية السؤال الضمني أحياناً، والصريح أحياناً أُخرى منذ الدلالة العميقة للعنوان (نزهة في السواد)، وما ينطوي عليه النص الموازي من جمع التضاد والاحتفاء بالتناقض لتوليد فضاء مشحون بالتأمّل أو الاستفهام أو التحريض، وفي تجربته نجد تضافر مجموعة من الظواهر الفنية والدلالات الفكرية التي تتيح له فضاء يتحرّك بين مضاعيفه ويمتلك حرّية التدفق (الذهني/ المكاني) (التاريخي/ الصوفي) (الذاتي/ الموضوعي). وليس غريباً أن تتمحور فصائده حول ثنائية (النار- الماء) ثم تتشظّى باتّجاه ثنائيات أخرى متناسلة : (الذات- الآخر) و(الحرية- القيد) و(الذات- المكان) و(الحزن- الإشراف) و(الحقيقة- المجاز).إنّه يكتب نصاً احتفالياً يستقي انبثاقاته من الفكرة أساساً وشعرية الفكرة هي التي تتيح له أن يتحرّك ويستعير ويتنافذ، ويتماهي ويحايث علامات وإشارات لتكون الكتابة عنده تعتمد (وعي الآخر) لأنه لا يتناول الأشياء والحوادث، والصور من درجة الصفر، بل غالباً ما يصنع رؤية مضافة وهذا الملمح هو الذي يحيل تجربته إلى استعارة الذهنية الصوفية والشعر الذي يتحوّل إلى حوار وتساؤل، وتحفيز وجداني، وهذا التكثيف (المعرفي) هو الذي يقوده إلى (الهايكو) وأسلوب التقطيع (المونتاج) وإلى براعة الاستهلال، ولحظة التنوير (الختاميّة) وإلى القدرة على استعارة (ما هو غير شعري) وجعله ينصهر في معترك أو (بودقة) الاستلهام التعبيري، ويصبح السؤال أو الموقف الشعري هو مركز القصيدة التي تثير المتعة، وتبحث عن المعنى بأسلوب يحتفي بحاسية وجودية في إحصاء المتراكم من الألم والوجع والحنين إلى صورة الجمال وإلى صورة المنفرد، وإلى صخب التأمّل، ولذا نجد في تضاعيف هذه التوليفة خيوطاً تمتدّ إلى النسق الصوفي أو الاختزال الدال وإلى الروح (الشعبية) وبهاء الأنتباه وتفحّص المشهد، برؤية مغايرة اختلفت فيها زاوية النظر، فهو ينظر إلى الأشياء والشواخص والأحداث على وفق منطق رؤيوي يخرج عن النظر المعتاد والتطلّع السائد، ويمزج ببراعة الرائي بين هواجسه وتجربته الذاتية وبين اسقاطات (السواد) التي (تبقّع) بياض العالم وهو يؤوّل العالم بطريقة تثير متعة الانتباه في نص (الأسود): كان الأسود لوناً  /   أنه     /  عثرة الضوء على عيون المعرّي  (المجموعة: 5) ونجد الملمح الصوفي في نص (استدلال) بقوله : ويضيق بي هذا المدى   /   وأقل    /   يا شيخ الطريقة دلّني .. كي لا أرى /  غيرك في الأوصاف أشركه    /   علّمتني وجهي على المرآة أمسكه .. (المجموعة: 6). ولعلّ شعرية السؤال تتجسّد في قصائده حتى تصبح القصيدة بأسرها عبارة عن سؤال صريح أو ضمني أو بحث عن معنى قصدي لا تلتقط أسباب النظر السائد : من أين جاء ..، /   كلُ  /   هذا   /   العطر  /   ينده  /  غفوتي..؟ والتساؤل الشعري في نصوص الشاعر قد يأتي (استهلالاً) أو ينبثق داخل النص، وحتّى لو لم يوظف حروف الاستفهام، أو صيغ التساؤل فإنَّ النص عنده يتشكّل وفق رؤية (متسائلة)، وقد يبدأ بالسؤال كنوع من تحفيز ذهنيّة المتلقي: كيف عللت هذا الخراب .. ؟/  كيف هدّأت نبضك ؟/   مرآتها انكسرتْ ووجهك قد تشظى واختفى ذاك البريق (المجموعة: 82) فالجملة الشعرية عند (ريسان) تترى بفرادة باذخة، إنه لا يتعامل بالمصادفة معها بل يحفر في البحث عن غنائيتها، وشغفها بالمعنى، فتأتي أثيرة مترعة باذخة، تزيد من عمق الإيحاءات الوجدانية التي تشتغل عليها نصوصه ولكي يرمّم معنى استعارة المحتوى الآخر (الذهني/ الصوفي/ التاريخي).وهناك نجد رؤى وعلامات متمركزة في عوالم استشعاراته فهناك (نهر الهدّام) (قد يكون نهر جيكور السيابي) وهناك (السجن الذي كابده الشاعر أبان منتصف السبعينيات)، وهناك (مظفّر النواب) و(فهد) و(ماركس) و(سعدي يوسف) و(بشر الحافي) و(الميمونة) ومدرسة (طي العرفان)، إنّها مرموزات وعلامات تتحرك في بنية الاستبصار الشعري الذاكراتي. ويلحظ أن الشاعر يقدّم خلاصة التعامل مع النص (الومضة) وبنسق (هايكوي) عميق الدلالة شاسع المعنى وبألفاظ معدودة (سبع مفردات) ويمكن تأمّل ما فعلته هذه المأثرة الاختزالية في نص (الفراغ): الفراغ  /  هذا الفراغ  /  واسع كالنقطة   لا يمتلئ إلاّ بالفراغ   (المجموعة: 26) وعلى الرغم من أن مفردة (الفراغ) قد تكررّت ثلاث مرات بهذه الفسحة القصيرة لكنّها لم تكن ثقيلة نظراً لأنَّ المعنى الكلّي يتمركز (حولها) وجاء التكرار ليعمّق دلالة المعنى المراد، وجعله في موقع (التصدّر)، ويجيد الشاعر صنع (مشهديّة) تعتمد الحس (البصري) وتقديم صورة تنطوي على المفارقة وتعدّد العلائق داخل النص (الشاعر، الوردة، الشباك)، وفق رؤية تعتمد التكثيف والتركيز والاختزال وإتاحة مجال التأمّل في أركان اللّحظة الشعر الباعثة على الإحساس بمفارقة الجمال : الوردة  /  والشباك   /   يتبادلان التلامس   /   والشاعر  في وحدته  /   يتنصت لخط موسيقى الأثر .. (المجموعة: 31). ويبرع الشاعر المبدع ريسان في التضمين (النوّابي) فيخلق بنية تناصيّة مع مفردة (النباعي) ليشكّل نص (ماء النباعي) متّخذاً من قصيدة النواب مدخلاً لرؤيته الشعريّة : كلما  /  نشرب القهوة المرّة  /   تستلذ بصوت القطار وحين يصيح القطار .. / نذوق الصوت قهوة .. (المجموعة: 32). حتى يصل إلى مقطع (الذروة) : عطش /   في الأعالي /  وصبيرة العمر جمرة   /  إنّ ماء (النباعي)   وأن لم يغض/أنت عشب نما بين صخر وآخر قطرة (المجموعة: 34-35) إنَّ الاستعارة والتناص والكتابة على الكتابة أو العلامة أو الأثر، هو نمط من الاشتغال الجمالي والمعرفي الذي يؤسس الشاعر عليه بنية نصوصه ويجعل مرجعية الأثر جزءاً من فضائه الشعري وبذلك يحقق نوعاً من غرس (المعرفي) في الشعري، وهذا يكشف عن طبيعة توجّهات الشاعر، وتمركزه على مستوى الوعي والتجربة والصدق التعبيري، فذات الشاعر حاضرة في هذا التشابك . ولم ترتكز مدوّنة (نزهة في السواد) حول مضامين ومحتوى محدد بل ارتأى الشاعر أن يرتحل في عوالم عديدة فيها التحوّل والانتقال وحركته للبحث فكانت الذات والسيرة والطفولة والنهر والسجن والفكر، ونضال الكلمة وبهاء الأغنية، وعوالم العشق الحقيقي وبراءة السؤال، وصوفيّة الجواب كلّها تتمرأى داخل النسغ الشعري، وفق مزاوجة تتخذ من رهافة وجمالية التجسيد مرتكزاً لها. نلحظ في نص (من هوامش السجين (/) 1977-1979) استرجاعاً حياتياً يعبر فيه عن تجربته في السجن آنذاك وينقل لنا عوالم الزنزانة وقهر الجسد والعقل والروح وفق ارتحال شعري شفيف ودال : في السجن   /   يسهل    /   عبور السور    /   لحظة أن تغفو .. صوت  /  الاقفال   /  عند الفجر   /  لا يعني فتح الأبواب /  الخط الفاصل   /   بين الضوء والظل  / لا يسع مرور نملة وأنت تكتب شعراً عن الحرية .  (المجموعة : 51-52) نصوص (ريسان الخزعلي) ذات أفق شفيف في اختزال تفاصيل الجسد والعقل والروح وهي تقمع بين جدران صدئة، حيث الاندثار، وموت الأمل وحيث نهاية الأفق، ولم نجد في النص الذي يتحدث عن السجن حساً تعبوياً أو هتافاً أو ثوريّة (هشة)، إنه تعمّق إنساني ورصد لغياب الحريّة التي تعني ضمناً غياب الذات، غياب الإنسان، غياب لحظة وجود حقيقي، ومن ظواهر المجموعة الفنية وهي كثيرة وقد لا يتاح لنا منطق الاستقصاء التام أن نتناولها نلحظ ظاهرة الاهتمام والتوجّه إلى (الماء) بمختلف الأشكال والمعاني، فالنهر والماء والرواء هي معادلات وجودية يلجأ إليها الشاعر ليعبّر عن توق إلى البقاء ويدين الجفاف والقبح من خلال هذه النزعة المائية كما رأينا في نص (وردة من ماء) الذي يحيل إلى أنَّ ريسان الخزعلي (كائن مائي) تشرَّب بصور الماء منذ طفولته وبقيت راسخة في مخيلته حدّ البقاء.

عرض مقالات: