اخر الاخبار

يعدّ مهديّ عيسى الصقر (1927 – 2006)، صاحبُ (حيرة سيّدة عجوز)، في ريادة القصّة القصيرة التي تُعنى بالفنّ، وتريدُ أن تقطعَ ما بينها وبين الحكاية القديمة الساذجة، ولا تبعدُ عن النهج الواقعيّ الاجتماعيّ؛ ومكانتُه منها في صفّ عبد الملك نوريّ (1921 – 1998)، وفؤاد التكرليّ (1927 – 2008).

ولد في البصرة، ودرس فيها، وأقبلَ، في أوّل نشأته، على الاستزادة من الأدب وما يتّصل به؛ غير أنّه وقف في دراسته عند المدرسة الثانويّة، ثمّ سلك سبيل العمل. وإذا كان انقطاع دراسته قد أضرّ به من جانب، فإنّه قد أفاده من جانب آخر؛ إذ أتاح له أن يعمل، وأن يخالط فئاتٍ كثيرةً من الناس، وأن يزداد خبرة في مجرى الحياة، ثمّ أن يكون ذلك كلّه، من بعدُ، مدداً له في كتابة قصصه. شرع مهدي عيسى الصقر، بعد أن قرأ واستزاد، يكتب القصّةَ القصيرة، ملتقطاً ما تقع عليه عينه من حوادث المجتمع وما ينبثق عنها، فيعيد صياغتها على نحو يُلبسها، في جملتها، معنى يقوم على أنّ الخيرَ في الإنسان يغلِبُ الشرّ، وأنّ النور يمحو الظلام؛  فأصدر في سنة 1954 (مجرمون طيّبون)، ثمّ أصدر في سنة 1960 (غضب المدينة). وكلا العنوانين ليس خفيَّ الدلالة على فكر الكاتب وموقفه؛ إذ ينبئ العنوان الأوّل: (مجرمون طيّبون) أنّ الطيبةَ أصل في الإنسان، وأنّها تغلِب ما عداها من عناصر، وينبئ العنوان الثاني: (غضب المدينة) عن نزوعٍ نحو الثورة، وإيمانٍ بها؛ إذ تُعلن المدينةُ غضبها على العتاة المفسدين، وتشرئب إلى غدٍ مشرق؛ وكأنّ الكاتب يحكي شيئاً ممّا وقع غداةَ الرابع عشر من تمّوز سنة 1958. إنّ الأملَ عنده، في مجموعتيه هاتين،  يغلِب اليأس، والفرحَ أعلى من الحزن، وما يأتي خيرٌ ممّا مضى!

لكنّ تمّوز الذي عقد عليه أملاً سرعانَ ما تلقّفه الضياعُ فانكفأ الكاتبُ على نفسه، وانقطع عن الكتابة مدّةً، ولزِم الصمت؛ يقول عن ذلك في (وجع الكتابة):“عندما تفجّرت ثورةُ 14 تمّوز، بعد مخاض صعب وطويل، استقبلناها بفرح؛ قلنا تحقّق الحلمُ؛ لم نفطِن إلى أنّ الثورة كانت بدايةً لمرحلة جديدة؛ حتّى جاءت ساعةُ الصحو. لم نصدّق ما كان يجري حولنا. القوى نفسها التي كانت تتحكّم قبل الثورة عادت تفرض سلطانَها من جديد.”  ويقول، وهو في سياق الإبانة عن الإخفاق:“وتوالت بعد ذلك الخيباتُ والإحباطاتُ. وتلفّتنا لنرى تلك الحلْقةَ الكبيرةَ المتماسكة من الكتّاب والشعراء تتمزّقُ وتتبدّد؛ كانت أحلامنا كبيرةً وساذجة.” وكلُّ ذلك كان يدعو إلى الصمت، وإلى مراجعة النفس؛ ومع الصمت والمراجعة أخذت رؤيته تتبدّل شيئاً فشيئا، وشرع عنصرٌ من الخيبة واليأس يتخلّلها. وكلّما نظر في ما طرأ على البلد من حوادث زادت الخيبةُ، واستحكم اليأس! حتّى إذا مرّت عليه سنوات، وعاود الكتابة، كان الأملُ القديم قد غاض، والفرحُ قد اختفى، وبدا له أنّ الحَيرة قدرٌ مسلّط ٌعلى الإنسان! ومثلما دلّ عنوانا مجموعتيه؛ (مجرمون طيّبون)، و(غضب المدينة) على مغزى ما كان يُضمر من أمل واستبشار؛ فقد دلّ عنوان مجموعته الجديدة؛ (حَيرة سيّدة عجوز) على ما أمسى يكتنفه من شعور بالخذلان والخيبة واليأس! وإذ صدرت (حَيرة سيّدة عجوز) في سنة 1986، في بغداد، كان بين صدورها وصدور (غضب المدينة) ست وعشرون سنة؛ تقلّبت، خلالها، به الحياة؛ فرأى، وسمع، وخَبِر، وعرف أنّ وراء الظاهر المشرق باطناً تتخلّجه الظلمةُ!

ضمّت المجموعةُ تسعَ قصصٍ هي: (حَيرة سيّدة عجوز، وجزئيّات الهيكل، والقلعة والقارب، والمسبحة، والحصان، وعنق الزجاجة، والهدير، والمضحّة، وعندما تبدو الرياح ساكنة).

سبع منها نسجت على الخيبة والخذلان واليأس، واثنتان هما (المضخّة، وعندما تبدو الرياحُ ساكنة) قامتا على الإرادة والأمل؛ على أنّ“المضخّة“قصّةٌ قديمة كانت قد نُشرت، من قبل، في (غضب المدينة)، ثمّ أعاد الكاتب نشرها في (حَيرة سيّدة عجوز).

وكأنّ الكاتب، إذ ضمّ هاتين القصّتين إلى ما يفارقهما في رؤية الحياة، أراد أن يُبقي بابَ الأمل مفتوحاً، وألّا يجعلَ اليأسَ مستحكما!

تقع حوادثُ (حَيرة سيّدة عجوز) في نُزل بمدينة أوربيّة، لم يُسمّها الراوي؛ صاحبةُ النُزل سيّدةٌ عجوز قد تقطّع ما بينها وبين الناس فانكفأتْ على نفسها، تُدير نُزلَها وتصحبُ قطّتها؛ يقول الراوي:“سألتها: هل يأتي أحدٌ إلى هذه المدينةِ في الشتاء ؟ قالت: بعضُ رجال الأعمال ليوم واحد أو يومين. وماذا تفعلين إذن ؟ قالت في استسلام: لا شيء، أُغلق بابَ البيت وأعيشُ وحدي. أليس لديك أولاد ؟ تركتْ سؤالي معلّقاً بعضَ الوقت، قالت وهي تحمل القطّة المتمنّعة من فوق البساط وتضعها في حضنها: أنا لم أر في حياتي حيواناً يحبّ النار مثلَ ساندي.

ليس للسيّدة العجوز إلّا قطّتها، وأصداء تُلمُّ بها من زمن بعيد! أمّا“جزئيّات الهيكل“، القصّةُ الثانية؛ فإنّها قصّةُ عاجزينِ؛ أعمى وكسيح، اتّفقا على أن يحملَ الأعمى الكسيحَ على متنيهِ؛ فيكونَ له بمثابة عينيه اللتين يرى بهما، ويكونَ هو للكسيح بمثابة ساقيه اللتين يمشي بهما. وإذا كان إطارُ القصّة مستمدّاً من حكاية قديمة روتها رسائلُ إخوان الصفا وحمّلتها مغزى فلسفيّاً؛ فإنّ الكاتب ملأ الإطارَ القديمَ بأبعاد اجتماعيّة تُلمع إلى تفكّك الأواصر، وشيوع الخذلان؛ وهو مدار تجربته بعد أن تبدّد الأملُ وضاع! وإذا كانت القصّتانِ السابقتانِ تُلمّانِ بما يملأ عليه نفسه بنحو من الرمز، والكناية؛ فإنّ القصّة الثالثة:“القلعة والقارب“نفذت إلى صميمِ الأمر الذي أشاع اليأسَ والخذلانَ في النفوس؛ مدارُ القصّة على رجل هاربٍ، من جور سلطان القلعة، بزوجته وطفله، على قاربٍ في جوف الليل؛ وبداءتُها تُفصح عن المبعث والمغزى:“– لماذا نهرب ؟! ردّ بصوت خفيض: - اششش ششش لا ترفعي صوتك، يسمعنا الحرس في القلعة فنضيع! سألته همساً: - لماذا نهرب ؟! لماذا لا نبقى.. مثل الآخرين ؟! أجاب همساً في غضب: - لأنّني لا أريد أن أموت كما يموت الآخرون.

لكنّه، على الرغم من ذلك، لا ينجو من القلعة وحرّاسها! إذ رصده الحرسُ، وأرعبوه، ثمّ سلّطوا عليه نيرانَ بنادقهم! وما كان له أن ينجو والكاتب لا يرى في ما حوله غيرَ الحيرة، والأمل الواهي، والخذلان!

وكلّ القصص، عدا“المضخّة“، و” عندما تبدو الرياح ساكنة“، إنّما هي صور قويّةٌ ملتئمة العناصر تصوّر ما آلت إليه الحال بعد انطفاء الأمل، وتفكك العُرى. لكنّ الكاتب، بجذره القديم وبروحه التي تأبى الانطفاء، يُعيد شيئاً من الأمل إلى قارئه بأنّ الحياة، بطبعها، عميقةُ الغور واسعةُ المناحي، وأنّ الخير عنصر أصيل فيها؛ فيُعيد نشر قصّته القديمة، المكتوبة في سنة 1959،“المضخّة“، ذات البعدِ الاجتماعيّ الواقعيّ؛ الواثقِ بالأرض والماء والإنسان ليُذكّرَ بما كان.

ويكتب قصّةً جديدةً يبنيها على الأمل والثقة؛ بعنوان“عندما تبدو الرياح ساكنة“، لكنّه يقول عنها: (حكاية عن الأطفال)؛ وكأنّه يقول إنّ أخفقنا وخاب رجاؤنا فالأمل معقود بأجيال ناشئة تُحسن إدارة حياتها! مدارُ القصّة على صبي صنع طائرةً ورقيّةً، وأخذ يحاول إطلاقها في الفضاء؛ لكنّ الطائرة تكبو؛ وكلّما كَبَتْ أعاد المحاولة من دون يأس أو ضجّر! وكانت ترقبه صبيّةٌ؛ مأخوذةً بما يعمل، وكأنّها تشركه في سعيه، وتحاول في نفسها مثلما يحاول؛ حتّى إذا استقامت طائرته، وعلت في الفضاء، وهو ممسكٌ بخيطها يصرّفها على ما يريد أشرقَ وجهه بالمسرّة، وأشرقَ وجهها! إنّ“حيرة سيّدة عجوز“من أجود القصص العراقيّ؛ صنعةَ فنّ، وسموَّ موقف...!

عرض مقالات: