اخر الاخبار

في بحث مميز لـ (لالند) قدمه ضمن تحليل البرجماتية باستدعائه لمقولة (ليبنز) ((لا يمكن لأي واقعة أن تكون حقيقية أو موجودة ، بلا وجود آني ملفوظ حقيقي او من دون ان يكون هناك سبب كافٍ لوجوده على هذا النحو ، وليس على نحوً أخر))  .

 (ليبنز) مفعم بمنطق مثالي، الا ان ما بين سطور كلماته ما يحيلنا الى مقاربة واضحة مع الفكر البرجماتي، ولاسيما عندما جعل من وجود اية واقعة مشروطهً بسببً سماهُ ( بالكافِ ) لوجوده ، فالسببية تقربنا من الذرائعية ومن ثم يكون للموجود امكانية البقاء والاستمرار ، وهذا هو ما يرتبط بالمثالية الموضوعية التي اسس فيها (ليبنز) افكاره ، اذ تتشكل العلاقة بينهُ وبين الفكر البرجماتي عندما تكون ذريعة وجود الاشياء والظواهر في مسبباتها وعمليتها او موضوعيتها ، فذريعة الظاهرة أو الشيء هو دليل استمراره .

 لذلك يمكن وصف البرجماتية بفلسفة التوازن النفعي الموضوعي العملي الباحث عن ذرائعية الوقائع و الظواهر ،انها فلسفة انبنت بذور أفكارها من دون تعيين منذ القدم ، و لاسيما مع سفسطائيو الاغريق ، فضلا عن ما قدمه ( ارسطو ) في اعتماده الحسي بمقاربة تفاعلية مع العقلي ، وبذلك اعطى قيمةً لأداء الانسان وانجازاته وشذب من سطوة الالهام والهبة الالاهية  في بناء وظهور المعارف والابتكارات الجديدة ، والامر نجدهُ واضحاً في البحث الاجتماعي عندما تُدرس قيمة الانسان في المجتمع وعلاقته بالأخر ، و من ثم ايجاد منطق حلً لصراعات الانسان المختلفة المواجهة لحياته ، وما (منطق الحل) الا رؤية تحليلية لا يمكن لنا الا ان نعدها انطلاقة ممهدة  للنظرة البرجماتية  .

ان مركزيات البناء الفلسفي في البحث الاكاديمي للبرجماتية انطلقت  مع ثلاثي حديث نسبياً مع اطلالة القرن العشرين من (تشارلس سندرس بيرس) مروراً بـ (وليم جيمس ) وصولاً الى (جون ديوي) و (ريتشارد رورتي)  وبالقاسم المشترك بينهم، عدت البرجماتية فلسفة فعل و تجريب مكللة بخبرة محققة للمنفعة ، وهي بذلك تستدعي العملي والادائي، و بالنتيجة لابد ان تكون تجريبيه ، اي تعتمد التجربة وآليتها  ، ولأنها (البرجماتية) تجريبية فهي بالنتيجة تستدعي تراكم بناء الفعل او ما نطلقُ عليه بـ (الطاقة العملية) (Prosser) ، اذ يتضح في خطابها الفلسفي اعتماد انظمة الخبرة بأسس لا تخلو من منطق المعرفة العلمية  .

انهُ فكر يعلن استمراريتهُ  وتأثيره على الكثير من مظاهر المعرفة و اداءاتها ، ومن تعالقات الفكر مع الاداء كما في الفن كأهم ظواهر الوجود التي رافقت الانسان منذ الكهف الى زمن المعاصرة  ليعلن انه متجسد في كياننا ولا يمكن انفصالنا عنه .

 ولان الفن بهذهِ المكانة ، فهو كما نحن في نمو وتحول ، هذا التحول في اعلاه في  ذاك الاندماج التوافقي مع عصر التواصل ( التكنوالكترونك ) وما قدم من ظاهرة ( الانترنيت ) وجزئياتها التطبيقية من محركاتً تشكل هذا التواصل ويمكن ان نعدفن التشكيل الممثل لجزئية مهمة وشمولية من عوالم الفن بما يمتلك من حضور وانتشار بتفاعل واندمج بهذا  (التكنوالكترونك ) بما فيه ولهُ من نمو و اضافات بدفقة برجماتية تعتمد التداول والمثاقفة في جسد هذا الزمن المفعم بمظاهر العولمة .

الامر الذي اصبح في دائرة من التضخم والانتشار مما يستدعي البحث والتنقيب وتقديم وصفي تحليلي لكل مكنونات هذهِ الظاهرة وتبعاتها ومؤثراتها . اذ تكمن صورة الهدف الذي يدعو الى تحقيقهُ رؤيتنا في هذا البحث ، من حيث الكشف والتمهيد لهذا التعالق الفاعل المستمر والمؤثر .

ان البحث الفلسفي مهما حاول ان يكون ملموساً و ملامساً للواقع الحياتي المعاش ، الا انه لا يلبث يدخل في جدلية اساسها السؤال المؤرق ( ما الحقيقة وهل نحن في دائرتها او خضمها ام في وهم يشوبه الحلم و فنتازيا التفكير .؟ )

 ان اشكالية التثبت من فكرة الحقيقة قد عاشت وما زالت في صراع بين اتجاهين ، الاول غيبي ما ورائي ميتافيزيقي يربط الحقيقة بقوى غيبية مطلقة تعد أساس لكل وجود ، أنه النسق الغيبي الذي يستبعد جعل المطلق وتبعاته ضمن دائرة المباشرة الحسية ، عندما تحال الى عالم مفارق لعالم الحس وقد سمي بأسماء عديدة منها عالم المثل او الصور الابدية او عالم الخير والحق او المطلق ، وهو قطعاً ضمن منطقة الخيال الفكري الذي يحاول الانسان احالته الى فعل و اداء .اما الاتجاه الثاني الذي يتعامل مع فكرة الحقيقة و يتمثل في الفكر المادي التجريبي الحسي بأحالة الوجود والحقيقة الى الانسان بوصفه اساس كل شيء وبعده صانعاً لكل الظواهر الفكرية والمعتقدات وهو الذي يعظمها  و ينهيها  .اذ بدأت هذه الآراء مع السفسطائيين في العهد الاغريقي و انعكست بتحولات نامية مع البرجماتية في عصرها الحديث و بعدها الحقيقة شكل فكرة انسانية تستشرف الموضوعية العملية الادائية التفاعلية التي يمكن التعامل معها ببساطة وتعينها بما يتقبلها منطق العقل ، وهي متحركة متغيرة مع ضواغط الحياة المعاشة .

الا ان التحول في الاتجاه الثاني ولاسيما في البرجماتية  ليس تحولاً بالتغيير بل بالتطور و النمو ، وتكمن فيه المقاربات  مع الفكر المادي الجدلي ضمن دائرة عد الانسان مركز تحريك الوجود ، ان ما قدمه عالم النفس والفيلسوف البرجماتي (وليم جيمس). من رؤى  في علم النفس قدمت دفقة حياة مهمه للبرجماتية عندما ادخلها في صميم الذات الانسانية ،  ولاسيما صراعاتها التي تجابهها باستمرار مع الاخر، او مع البيئات المتنوعة التي يتعامل معها الانسان ، ولابد من التنويه ان البحث في الصراع بين الانسان ومحيطه لم يكن عند (جيمس) مشابها كما هو الحال عند (سارتر ، هايدجر) المفعم (بالنزعة الوجودية) ، بل ذو نزعة برجماتية بالخالص ، وعلى خطى (بيرس) طور (وليم جيمس) فكرة التجربة بوصفها اداة الوصول الى الحقيقة ، التي لابد ان تكون محكومة بقياس الموضوعية ، والتفاعلية ، مجيبةُ عن كل التساؤلات التي تستدعي الذرائع للحدث او المسبب لها .

ان الرؤية البرجماتية تستدعي العولمة في فهمها للواقع بتأكيدالحدث كما هو وكما يكون وليس كما يتخيل ،مع ثقافة تزدري الماضي والمرجع و تستشرف المستقبل ، انها مقاربة تعلن اتحاد ما يمكننا من تفريق على مستوى التجزئة في البحث العلمي ، حتى اصبحت هذهِ المقاربة الاوسع في واقعيتها وموضوعتها ، والاوسع  تأثيراً في حياتنا المعاشة بأحكام نتعامل معها مرغمين بضاغط طبيعتنا البشرية المؤطرة برغباتنا، او في بعضها خانعين .

انها العولمة التي أتكأت على ما فينا من تداولية ورغبة للمثاقفة مع من هو الافضل في منطق حل اشكالات الوجود بمعوقاته الحياتية المادية بكل وما يؤطر من نزعة برجماتية ، انها برجماتية براية وبدعائم ( تكنوالكترونك ) وقد اجتاحت حياتنا واصطبغت بها سلوكياتنا.

إن ما قدمته التكنولوجيا ولا سيما وسائل الاتصال السريعة والمباشرة، اسس ضاغط جديداً وقوض ضواغط كانت سائدة ، ، على الرغم من أن التكنولوجيا لم تكن مفاجأة بل لها تتابع تراكمي في النمو ، الى أن وصلت في أعلى طاقاتها ، ونقصد وسائل الاتصال السمعية والمرئية المتجسدة في ( الانترنيت)بوصفه ضاغطاً جديداً يتمثل ( بالعولمة ) الذي أثر ويؤثر حتماً في بنية الانتماء الفكري وما يتبعها من سلوكيات تنتقل من ممارسة الثقافة الى ممارسة بناء وتشكيل الهيئات والتصرفات الفردية الانسانية .

ان ضاغط العولمة يشكل  ( مثاقفة ) منتقلة من بناهاالشكلانية الى الاعماق الفكرية ، مع نمو مركزياتها بتأسيس بنى فكرية وسلوكية بدعائمها التكنولوجية التواصلية  ، اذ تنعكس أثارها في  التذوق الفردي والجمعي ، ومن ثمَّ في الخطاب النقدي المعتمد في جزءٍ منه على  البنية التذوقية ،وذلك عندما تحاول العولمة احالة العالم من مساحته الواسعة الكبرى الى اصغر جزئية  في الفرد وتنبني على افعالهِ وتستشرف طموحاتهِ وتستقصي حياته ، فهي بذلك تستثمر نجاحات محاولاتها لتحقيق استراتيجياتها التي تقدم ذاتها كواقعة لا خلاص منها ، وهنا تبدأ إشكالية التمييز بين مظاهر العولمة السلبيةِ والايجابية ، على الرغم من عدِّ مصطلح (السلب والايجاب) موضوعة قياس يستخدم على نحو واسع في الخطابات النقدية والفلسفية بل في كل خطابات حياة الإنسان، إلاَّ أن هذين المصطلحين يرتبطان بفكرةٍ تُعلنُ انتمائيتهما بوضوح وهذه بحد ذاتها نسبية لا يمكن أن تكون ثابتة لأن الحياة المعرفية للحضارة الانسانية متنوعة ومنتجة للاختلافات الواسعة غير المنتهية وما يمكن أن تكون ضمن دائرة الثبات الأكثر والأوسع نفعاً وفائدةً وتعافياً كما في الامور المتعلقة بصحة الانسان وحتى هذه التي تبدو لا خلاف عليها في أن تكون ضمن دائرة الايجاب تعيش حالة تقويض مع ظروف معينة قد تتطلب العكس بمعنى أبسط أن البحث العلمي يُعلن لا تثبت في القيم والقيمية البة فالوجود الانساني في تنوع وتحول دائم.

 والتمييز يُعد اعلى مراحل الاشكاليات التي لا يمكن التثبت من صحتهِ او ضررهِ ، الا على وفق منهج فلسفي يسلط فلسفتهِ نحو قراءة العولمة بجزئياتها ، وتوصف الجهات الاكثر اصطداماً بالعولمة بحدودها التي تقاوم بمنطق الالتزام، اذ تتميز بالمحافظة الراديكالية وتأكيد الشخصية الصارمة والجانب الصلب من الانتماء (المنهجي) الذي يشعر ان اي تغير في حركة المجتمع لابد ان يكون ضمن اطار قيمي عقائدي ، الامر الذي جعل من (العقائدية) بأي شكل من اشكالها ، امراً يناهض العولمة او ان العولمةِ ذاتها تناهضهُ وتسقطه ، وهذا الموقف يعني ان العولمة تدعو الى الفردية ، ومن ثم فأن هذا الفردية إن توافقت مع من حولها فان توافقها نسبي جزئي ذو ابعادً قصيرة في الزمانِ والمكان ، ولهذا قدمت اللحظية والانيةِ والنسبية وتراجعت التاريخية والماضوية والمرجعية وتقوضت المطلقات ، فلا ثابتً يحكمنا ولا قرار يهيمن علينا ، ان ما يحركنا رغباتنا وانفعالاتنا ومصالحنا ، ومن ثم مكاسبنا على مستوى الفرد والجماعة الصغيرة التي تصب مكاسبها في مكاسب الفرد ذاتهِ.

عرض مقالات: