اخر الاخبار

أقبل المساء.. وأسدل معه اللّيل ظلامه الدّامس الحالك على شوارع القرية المنجميّة، القابعة بين كثبان الفسفاط المترامية الأطراف والحبال العالية الشّامخة.. كان المطر ينزل بغزارة، فتتساقط حبّات الماء الزّلال على بطحاء الدّشرة في توؤدة.. كانت السّماء تلبس السّحاب والغيوم الحالكة.. وبين اللّحظة والأخرى تهجم سيول الأنواء على الأبنية المتواضعة والمنازل المتداعية، وكنت أسمع حشرجة طوب الجدران المتآكلة وهو يتهدّم، فيهزّني ألم جارف عنيف، وأحسّ أنّ قلبي يكاد يقفز من بين ضلوعي شفقة على تلك العائلات التي يرفع أفرادها كافّة أياديهم إلى الله تعالى طالبين الرّحمة، وهم خائفون مذعورون من تكاثر العواصف الشّتويّة والرّياح الباردة.

«يا ربّي! اللّطف. الرّحمة! «لا عنّا لا باش..لا علاش».. آه يا ربّي!. اللّطف! اللّطف الرّحمة! ».وكنت أنا في ركن من الغرفة الّتي أقطنها أنا وإخوتي الخمسة أطالع.. أحاول أن أنسى تفاصيل أحزان عمري.. أغوص في الكتب والمجلاّت المتناثرة أمامي بعض سويعات.. هذه قرية «أمّ العرائس» بكلّ همومها تغزو مخيّلتي.. أحزان النّاس فيها تتمطّط عبر سطور ذكرياتي المظلمة. وفجأة تصيبني نوبة بكاء حادّة بينما تنغرس علامات الدّهشة والاستغراب على شفتي أمّي وتسألني في ذهول مصطنع: مالك يا ولدي..؟ أشعر أنّ نار الثّورة يتأجّج لهيبها في داخلي، فأصرخ في وجه والدتي العجوز:

أمّي.. أمّي.. إنّي ألعن يوم ولادتي.. كرهت الشّوارع القذرة المتجهّمة.. سئمت النّاس، والأشياء في هذه المدينة الحزينة.. بل حتّى نفسي صرت أمقتها.. لماذا؟..   

لا أعلم.. ها إنّني الآن في عزّ شبابي أبغض الشّباب!! هنا في قريتي لا توجد نوادي تسلية.. مقاهي.. دور شباب.. مراقص..مسابح.. مصانع.. لا شيء.. غير الفسفاط والغبار.. ونظرت إلى أمّي فوجدتها تبتسم بسخريّة وتقول لي:لا يهمّ يا بنيّ..لا يهمّ.. وانتفضت فجأة، وقمت فجمعت أوراقي المتناثرة ورميت بها في جيبي، وخرجت لا ألوي على شيء.. وصرخات إخوتي ترتفع ورائي.. أنا هارب.. هذا الطّريق يمتدّ طويلا أمامي.. إلى أين أنا ذاهب في هذا الظّلام الموحش والمطر المتواصل؟ ذاك ما كنت «أجهله» كنت أجرّ خطاي في تثاقل فيجرح قدمي الحصى المرشوش على قارعة الطّريق. كانت قطرات المطر تنهال على وجهي.. وتقدّمت بعض الخطوات.. هذا «العربي بالرّاقد» ملقى على «جرد زاورة» يحملها على ظهره صيفا شتاء.. رمى بنفسه على جزء منها واتّخذ من جزئها الآخر غطاء يحميه من لسعات البرد والمطر.رمقني بنظرات بائسة لها ألف معنى..مدّ لي يديه المكدودتين..

“ربيّع خبزه.. الله يقد أحوالك” أسرعت إلى أقرب دكّان  في الحيّ.. اشتريت الخبز والسّردين.. ورجعت.. أعطيتهما إيّاه.. وجلست قربه.. كان يأكل بنهم شديد لا يوصف، بينما رحت أنا أفكّر.. كنت مطرق الرّأس.. تنتابني الأفكار والهواجس. اندفعت ألقي عليه سؤالا طالما خامرني كلّما جلست إلى «العربي» هذا الرّجل البائس.. ما رأيك في الحياة؟ أغمض العربي عينيه لحظة ثمّ انطلق يحكي وكأنّه ينتظر هذا السّؤال منذ زمن بعيد! “آه يا بنيّ..ماذا أقول عن هذه الحياة؟ لقد امتصّ الزّمن الظّالم رحيق عمري..ها، إنّ الفقر والغربة ينهشان جسدي وأنا بين أهلي..نعم بين أهلي أتلوى في أحزاني..جائعا..عاريا..ولا من رحيم..اسمع يا ولدي..لقد كنت أشتغل بالمنجم مثل غيري من العملة مطمئن البال..مرتاح الضمير..ثم ما لبثت أن وجدت نفسي أخالط أولاد الحرام فشربت الخمرة..وصرت ذا سلوك مشين...وطردت من عملي بدعوى أني مجنون.. وتنكر لي كلّ الأهل والأقارب.. عندها فقط أدركت أنّ الصداقة منفعة متبادلة تدوم بدوامها، فحملت أدباشي، وسافرت..لا تسألني إلى أين؟ فقد كنت أمشي ولا أعرف أين سأقف..وبعد أن زالت عني أتعاب السير في الصحراء دخلت الأرض الليبيّة..لم أجد في الحقيقة ما كان يراودني من أحلام وأمان، وأثقلت على الغربة والهجرة..ووجدت الجوع يلتهمني..قرصتني عقاربه الموحشة فشددت بيدي على بطني، وصبرت..طلبت الخبز..تسوّلت..وأخيرا..أظلمت الدّنيا أمام عيني..وانسدّت في وجهي أبواب الرّزق..فمددت يدي للسّرقة..سرقت يا ولدي!!هل تتصوّر ماهو أبشع من السرقة؟ وقبضوا عليّ..وصرت سجينا يرسف في الأغلال..كان الدمّ الأحمر القاني ينبجس من أجزاء جسدي مع كلّ ضربة من حارس السّجن..وعشت خمس سنوات كاملة وأنا في ظلام السّجن..وجاء يوم!!خرجت فيه من السّجن..فرحت أبحث عن شغل..لم أجده، وصرت بطّالا..ما ألعن البطالة في بلاد الغربة يا بنيّ؟!وذات مساء..رموا بكلّ المتسكّعين والغرباء في شاحنة وكنت معهم..شعرت بالخيبة لأنّ كلّ آمالي الّتي سطع نورها ذابت كالسّراب الخادع..ورجعت إلى قريتي..طلبت الشّغل فلم أجد غير البطالة..امتلأت ذكرياتي بالوعود الكاذبة..

والآن ..ها إنّني كما تشاهد..غريب لا ملجأ يضمّني..ولا رفاق ولا أصحاب ولا خلاّن يعطفون عليّ..الفقر مسمار حادّ يمزّق شظايا جسمي..ماذا أقول لك أكثر من هذا عن الحياة؟ إنّها خائنة..تقتل نور الحياة في الوجوه..تذكرني يوما يا ولدي..لا تقل «العربي» مجنون..أنا مجنون لأنّ كلام البعض ينبح كالكلاب الضّارية أمامي وورائي..لم أطق صبرا يا ولدي..تمرّدت على الحياة، وعلى تقاليد النّاس. ابتسمت في مرارة..خرجت الكلمات عفويّة من فمي. مدّ لي صديقي الجديد يده وتصافحنا على أمل اللّقاء كنت أفكّر: كيف سأبني صداقتي مع رجل منسي؟!

عرض مقالات: