اخر الاخبار

هذه مقطوعةٌ طريفةُ المعنى ، متينةُ اللفظ ، بعيدةُ المرمى ،  فريدةٌ في بابها ، أو تكاد تكون  ؛ قد ذهبتْ في منازع النفس  إلى القناعة المستغنية ،  ورضيت بالقُلّ ، واطّراحِ تكلّف  الأهوال ، وتجنّبِ المخاطرة ؛ على خلاف مذاهب الشعراء في تزيين السعي وتقحّم الغمراتِ من أجل اكتساب المال ، وحيازة الجاه ؛ صاحبها أبو عمرو كُلثوم بن عمرو العتّابيّ التغْلَبيّ ( 135 ه – 220 ه ) ،  ذو النسب المتّصل بعمرو بن كُلثوم ، الشاعرِ القديم . 

كان العتّابيّ شاعراً كاتباً ؛  يُزاول الصناعتين بإحسان وإجادة ؛ حكى ابنُ المعتزّ في الطبقات أنّه كان “ مجيداً مقتدراً على الشعر ، عذبَ الكلام ، وكاتباً جيّدَ الرسائل حاذقاً ، وقلّما يجتمع هذا لأحد .” وكان إلى ذلك ، على ما حكى ابنُ المعتزّ أيضاً ، ذا ديانةٍ ، وقناعةٍ ، وسعةِ أدب  وكان ذا نظرات في أحوال الناس ، واختلافهم إلى الجدّ والهزل ، وتباينهم في الصيانة والتبذّل .

اتّصل العتّابيّ بذوي السلطان ، شأن أمثاله من الشعراء والكتّاب ، وغَشي مجالسَهم ، وأنشدهم من شعره ؛ لكنّه ظلّ حذِراً وجلاً يخشى سطوتَهم ، ويتجنّب بأسهم وزادت خشيتُه حين أوقعَ الرشيدُ بالبرامكة فأزالهم عمّا كانوا عليه ؛ وقد كان  كُلثوم بنُ عمرو ممّن يألف مجلسَهم وينال رفدهم ، فخشيَ أن  يُصيبه شيءٌ ممّا أصابهم فاختفى محاذرةً وإشفاقاً  ؛ حتّى إذا  ذهبت سَورةُ الغضب ، وقرّت الأنفس  عاود الظهور ، ولكن بنحوٍ  منقبض خائف ، يؤثر السلامة ، ويقدّمها على ما سواها ، ويصرف نفسه عن كثير ممّا يشرئبّ إليه الناس .

وإذا كان العتّابيّ قد أخذ نفسه بالنأي والانقباض ، أو بشيء منهما ؛ فإنّ أهل بيته لا صبر لهم على مباعدة  زينة الدنيا ومباهجها ؛ فأرادت  زوجُه منه أن يدع القعود ، وأن  يسعى في طلبِ الغنى ، وأن يستزيد من الثراء ! وإنّما الثراء والجاه كلّه بيد السلطان ؛ يعطي من يشاء ، ويمنع من يشاء ! وصحبته ، على كلّ حال ، أمرٌ مخوف !

سمع العتّابيّ قول امرأته فأنشأ هذه المقطوعةَ الطريفةَ البليغةَ في دلالتها  على طويّة نفسه ، وعلى زمانه وما يضطرب فيه :

تلـــومُ علـــــى تركِ الغـــنــــى باهليّـــــةٌ ... زوى الدهرُ عنــــــها مـــــــن طريفٍ وتــالدِ

رأتْ حولَها النسوانَ يرفُلنَ بالكُسا ... مـــقلّــــدةٌ أعنــــــــــــــاقُها بـــــالقــــــــــــــــــــــــــلائدِ

تقولُ : أمــا تحـدوكَ للمــجدِ همّـــــةٌ ... تُنيــــلُكَ وجـــــهاً مـــــــــــن وجــــــــــوه الفـــــوائدِ

أســـــرَّكِ أنّـــــي نلــتُ مـــــــا نالَ جعفرٌ ... مـن المُلْك أو مـــا نال يحيى بنُ خالدِ

وأنّ أميــــــرَ المــــــؤمنيــــــن أغصّـــنــــي ... مَغصَّـــهما بــــــالمُـرْهَفـاتِ البـــواردِ

ذرينــــي تجئْنــــي مـــيتتـــــي مطــمَئِنّةً ... ولـــمْ أتجشّـــــــــمْ هَـــــــــــولَ تلــــك المــواردِ

فـــإنّ رفيــــــعاتِ الأمـــــــــورِ مشــــــوبةٌ ... بمســتودعـــاتٍ فــــــــي بطــــــــون الأساودِ

وأوّل الطرافةِ أنّه دعا امرأتَه بالباهليّة ؛ منسوبةً إلى قبيلتها ، فلم يُسمّها ، ولم يَكْنِها ؛ بل قال : تلومُ على تركِ الغنى باهليّةٌ ! ومكمنُ الطرافة في ذلك ؛ أنّ العربَ ما فتِئت تروى الحكايات في مذمّة “ باهلة “ ، ووصمِها باللؤم والشُّح والهوان ؛ فقد عقد المبرِّدُ في الكامل باباً على ما قيل في مذمّتها ؛ أورد فيه شعراً وحكاياتٍ طريفةً تستدرّ الضحك وتُشيع الفكاهة . وكانت تلك الحكايات والأشعار تُروى ، ويتداولها الناس ، ويكفي أن يُذكر اسمُ “ باهلة “ حتّى تستعادَ ، ويستعاد معها جانبُها الطريف ! ولا يُراد بتلك الحكايات وجهُ الحقّ ، وإنّما هي أقوال تقوم على اللمز والمعابة من أجل المفاكهة وسمرِ المجالس .

لكنّه ، وهو يلمزها ، لا يريد أن يدفع عنها صواب ما ترى ؛ فقد مسّها الدهر غيرَ رفيقٍ بها ،  وذهب بالطريف والتالد ، وجعلها ترى النساء من حولها منّعماتٍ ، مكسوّاتٍ ، محلّاةً أعناقهن بالقلائد وهي لا نصيبَ لها في شيء  ! وكأنّه ، بذلك ، يريد أن يجد لقولها مساغاً ؛ وأنّها على شيء من الصواب حين تُريده  أن يكون ذا همّة ، وأن يسعى في نيل الرغائب  من مالٍ وجاه ، وأن يتّصل بأصحاب السلطان ، وأن ينال صلاتهم ! لكنّه ، على ما يرى من حال أهله ،  يخشى السطوة ، والبطش ، وتقلّب الأهواء !  وقد كان أبو نواس ، من قبله ،  يقول : إنّي إذا دخلتُ على ذي سلطان فكأنّي على جمرٍ  مادمت عنده ! وكانت وقعةُ البرامكة شاخصةً قريبةً منه  تنبئ بما يُخيف ويُرهب ؛ فأراد أن يلوذ بها ، وأن يجعلها حُجّةً له على زوجه ، وأن يُبينَ بها عمّا يتخلّج  نفسَه من خوف وإشفاق ؛ فيقول : ما نفعُ أن ينالَ من المُلْك ما نال يحيى بنُ خالد  ، أو ما نال جعفر بنُ يحيى ، ثمّ يَنزلَ به سيفُ السلطان فيوردَه مرَّ الموارد ؟! ولا يلبثُ حتّى  يجهرَ لزوجه بما استقرّ في نفسه  قائلاً : إنّه يريد أن تأتيه ميتتُه وهو مطمئن ، وألّا يتجشّم الأهوال ، ويركبَ المخاطر ! ويختم مقطوعته بحكمةٍ مستخلصةٍ من جملة تجاربه ؛ أنّ تطلّب عظيماتِ الأمور يجعل الحياة على كفّ من الخطر !

وعند العتّابيّ ، في مقطوعته هذه ، أن لا شيءَ يعدل السلامة !

وإذا كانت هذه الأبيات تدلّ ، في جانب منها ، على الطرافة فإنّها في جانب آخر تدلّ على ما كان من عتوّ السلطان وطغيانه واحتجانه الأموال ، وعلى جوّ الخوف السائد بين فئات قريبة ، بنحو ما ، من إدارة الدولة . وإذا كان الزمان قد مضى بالعتّابيّ وأهل عصره ، حاكمين ومحكومين ، فإنّ ذلك النسيج من العلائق لا يفتأ يتجدّد قرناً بعد قرن ...!

عرض مقالات: