اخر الاخبار

تحرص رواية الشاعر عبد الزهرة زكي “غريزة الطير” على التوغل في العذاب الانساني في مدينة البصرة وما عاناه اهلها من ويلات ، خاصة وانها مدينة عريقة دمرت الحروب الكثير من ملامحها وكينونتها وفاعليتها الحضارية.. الرواية غدت سجلاً كبيراً لمعاناة ابطالها والمحيطين بهم ، كما عانته مدينتهم ، بدءاً من الأنتفاضة الشعبية عام 1991 حتى زمن الاحتلال عام  2003  “..... ما زالت آثار الرصاص على الواجهات ، حتى كدت اشم رائحة البارود والموت . اردت اغلاق انفي بمواجهة الروائح النتنة المنبعثة من طفح المجاري ..... )) لتؤكد للقارئ اننا ازاء مدينة حل بها الخراب عن قصد وسابق اصرار ، حيث تكفل سرد المحنة  البصرية  شخصيتان هما في الحقيقة صديقان تآلفا معا ، في حياة قاهرة اتت على احلامهما ، مع انهما من منحدر برجوازي يتمتع بالكثير من الفرص المتاحة لهما لكن الرواية تفضح باسلوب الوصف كل عبثية الحياة في المدينة بل ومنهجة النظام في عسكرة الحياة والاكثر من ذلك نجد ان ابواب النفاذ من السجن الكبير اصبحت معدومة باصدار القوانين الجائرة من قبل النظام انذاك . اننا ازاء سرد احسن السارد صياغته اذ جعل الوصف المتواتر نهجاً لاحداث ما يسرده عن مدينته والحق نجد ان الرواية يسردها اكثر من سارد واحد لعل من ابرز الساردين هما فوزي وآدم ، وهما صديقان يتقاسمان الالم والفرح معا واعتقد ان الرواية تنبع مصداقية السرد فيها من واقعية عدد من احداثها رغم ان ما يطوقها هو الحس الشاعري المنتسب للخيال المترع بثراء اللغة . يقول آدم عن حياتيهما ( هو وصديقه فوزي ) : ((في المعقل بدأت علاقتي بفوزي كطفلين صديقين كنا في منزلين متجاورين احبته والدتي كثيرا ، وتعلق هو بها اكثر وهذا مامنحه فرصة تعلم الانكليزية معنا ، نحن طفليها في المنزل ....)). علينا ان نعلم ان أم آدم هي من اصل انكليزي لهذا اعطت كل ماتعلمته في وطنها لتلقي بضلاله على الساردين لاحداث الرواية ، وهذا النوع من الروايات يصعب تلخيصه بسبب زمن الرواية الطويل والذي يمتد من الانتفاضة الشعبية حتى احتلال العراق . كما ان النهج السردي الذي اتبعه المؤلف الصديق عبد الزهرة  هو النهج الوصفي الذي يحاول الابتعاد عن تصفية وحدة الصراع وقد جاء بعضها بصيغة الخبر وذلك لطبيعة السرد الذي يركز على العام اكثر من الخاص : (( كان الشعور السائد ما بين الناس في البصرة هو ان تكون المدينة موضعا متقدما وساحة لحرب مدمرة وهذا ما جعل كثيرا من العائلات تنتقل الى مدن عراقية اخرى لتبتعد عن  خطوط الحرب  التي تحيق بالبصرة من جنوبها وغربها . )).  من الواضح ان الرواية هي تمجيد صريح للذي تحملته البصرة كمدينة وكميناء ولا ينكر ما دفعته ثمنا لبقائها حية رغم الالام والفواجع التي عانت منها . ومن هذا الذي ذكرناه تبين لنا ان ثمة مشترك فاعل بين ما يواجهه الابطال  وما يسود في عموم المدينة كونها مدينة على البحر ، فافعال من نوع التدمير واعاقة تطور الحياة يشمل البصرة ومن فضل البقاء فيها من منطلق يذكره ادم في احد احاديثه ان ليس ثمة مكان افضل من مكان اخر في العراق مادامت الحرب قائمة (( من يضمن  ان المكان الاخر سيكون اكثر امانا من البصرة ، كان التفكير الاخطر هو احتمال التعرض لضربة كيمياوية  .)) . لنلاحظ ما يعانيه السكان متمثلين بما يعانيه السارد لعذابات المدينة .  هناك روايات لا يمكن ان تلخص كما لو انها تعتمد في بنائها على حكاية تبدأ من نقطة لتنتهي في نقطة محددة . رواية “غريزة الطير “ رواية مدينة دفعت الثمن باهضاً من خلال ما عاناه سكانها ، لذا لم اجد امامي حلا سوى التركيز على معاناة مدينة السارد وما قاسته خلال الحرب وما تلقته من النظام في حينه كعقاب لها بسبب انطلاق انتفاضة تشرين من البصرة بعد تدمير جدارية تمثل رئيس النظام كما هو معروف لنا كلنا .

ان “غريزة الطير” هي التحليق وربما الهجرة وقد يعتقد بعض المعنيين بالتأويل  : المنفى  اوترك الموطن الاول الى وطن اخر .

      كيف يمكن تلخيص رواية وضع المؤلف فيها كل ما خطر في ذهنه وعاشه عن كثب وما تعلمه عن فن كتابة الرواية وقد وضع نصب عينيه ان يعطي للبصرة كل جهده ومعرفته بتاريخ المدينة واحوالها والمتربصين في مجدها . تكاد “غريزة الطير” ان تكون سجلا حافلا بكل ما الم بالعراق شعبا ووطنا ومن هذا المنطلق علينا ان نضع ما سعت اليه الرواية نصب خاطرنا ورؤيتنا على انها رواية او سجل مدينة شأن الروايات التي ركز ساردوها على نشوئها وتطورها وتمددها حتى غدت مدينة يحق لأبنائها الدفاع عنها ، رغم ما يحف بها من ويلات وهموم عسيرة : (( ...... قبل اسابيع ، في 15تشرين الثاني 2002صدر قرار مفاجئ بتبيض السجون ، وكان هذا من اوضح اشارات النظام على اقتراب موعد الحرب ، ولم يفرح احد بهذا القرار الذي اطلق سراح الكثيرين من ارباب السوابق الجنائية ومن العصابات والخبراء في الجريمة المنظمة والسرقات الكبرى)). لا يخفى الغرض من اطلاق ارباب السجون من عتاة المجرمين بدون خروج اي سجين سياسي ولقد اشار السارد الى ذلك بكل وضوح حيث غادر القتلة سجونهم ومعتقلاتهم ولم يشمل هذا القرار الشاذ اي سجين من السجناء من اصحاب التوجهات السياسية الوطنية والاجتماعية، لهذا لا غرابة ان نجد بعد ايام وقد تحول الشارع العراقي في بغداد او اية محافظة اخرى من محافظات البلد ، لقد الهب المجرمون الارض تحت اقدام من اصبحوا اعداء لهم حسب توجيهات الجهة التي جندتهم لصالحها ..

     اتبع المؤلف في “غريزة الطير” لغة هي مزيج من الشعر زائداً لغة الواقع الواضحة مما ساعد الرواية ان تقدم نفسها الى قارئها بكل يسر ، لذا تمكنت من دخول عوالم غير متوقعة بل هي غريبة من حيث معرفة المؤلف بموضوعه الذي طرحه امام القارئ ، وكما هو واضح ان الشاعر عبد الزهرة زكي وضع نصب عينيه الا تنزلق روايته الى مكامن الشعر واغراءاته  ( لقد تورط عدد من الشعراء الذين كتبوا الرواية الى عدم تمكنهم الخلاص من سطوة الشعر كالشعراء: سعدي يوسف وسامي مهدي وحسب الشيخ جعفر وغيرهم كان هؤلاء يكتبون الرواية كأنهم يكتبون القصيدة، لكن الشاعر عبد الزهره زكي كان يدرك خطورة ذلك . ) كما قرر الابتعاد عن لغة الواقع الناشفة ليتيسر له سرد يمتلك اغراءً للمتلقي ليواصل القراءة وهذا ما حصل لديَ فعلا حيث ادركت منذ الصفحات الاولى اننا ازاء سرد اعتمد الوعي الخاص بالمفردة ليأخذ السرد ومن ثم الرواية مكانتها كما ان الرواية تستحق ان تقرأ ويكون لقارئها وجهة نظر فيها وذلك للجهد الواضح الذي بذله المؤلف من اجل تجاوز العديد من العقبات التي تواجه مؤلف الرواية.

عرض مقالات: