اخر الاخبار

ولد هاشم سعدون حسن الطعّان في الموصل، في سنة 1931، ودرس في مدارسها، وكان في دراسته نابهاً يحبّ العلم والمعرفة، ويُقبل على الاستزادة منهما، وقد أدرك معلّموه فيه، منذ صدر حياته، النباهةَ والذكاء، واستقامةَ المسلك. كان صغوه نحو العربيّة؛ في ألفاظها وأبنيتها، وفي كَلِمها المنظوم؛ وكان كلّما تقدّم في دراسته زاد إقبالُه على الشعر العربيّ؛ حفظاً ودراسة، وزادت رغبته في قراءة الآثار القديمة والجديدة؛ وتحفّزتْ قريحتُه الأدبيّة لمزاولة النظم والنثر. وحين أتمّ الدراسة “الثانويّة “ التحق بدار إعداد المعلمين، وتخرّج فيها معلّماً؛ فعمل في التعليم الابتدائيّ مدّة، عرَفَ، خلالَها، تلاميذُه فيه الجدَّ والإخلاص وحسنَ الرعاية، ونزعةً أدبيّة حبّبت إليهم الدرسَ وصاحبه.

أقبل هاشم الطعّان على الأدب العربيّ الحديث مثلما أقبل على الأدب القديم؛ لا يصدّه عن موطن الأصالة والإبداع قِدَمٌ أو حداثةٌ؛ ذلك أنّه وُهِبَ مقدرةً على إنزال المعارف منازلَها واستصفاءِ خير ما فيها، مثلما وُهِب رحابةَ أفق ولينَ جانب. وقد نشأت بينه وبين ناشئة الأدب في الموصل، ممّن هم في سنّه أو في سنّ قريبة منه، وشائج تقوم على حبّ الأدب والثقافة، وعلى التطلّع إلى غدٍ مشرق. فقد قامت بينه وبين شاذل طاقة، ابن مدينته، صحبةٌ ومودّة؛ كان كلاهما حريصاً على إدامتها. وكان شاذل أكبر منه، وأسبق إلى ميدان الشعر والثقافة. ثمّ التقى معهما من أبناء المدينة: يوسف الصائغ، وعبد الحليم اللاوند؛ وكلّهم كان في صدر حياته، يزاول الشعر والكتابة، ويُعنى بالشأن العامّ وما يضطرب فيه، ويمدّ عينيه مستشرفاً ما يتخلّج في الأفق.

كان هاشم الطعّان قد أصدر في سنة 1954 ديوانه الأوّل: “ لحظات قلقة “؛ طبعته المطبعة العصريّة في الموصل، لكنّه لم يُقدّر له الذيوع، وظلّ مداره في حلْقة الأقربين، والأدنين. وبدا، من بعدُ، للأصدقاء الأربعة؛ شاذل طاقة، ويوسف الصائغ، وهاشم الطعّان، وعبد الحليم اللاوند أن يُصدروا معاً ديوان شعر بعنوان: “ قصائد غير صالحة للنشر “، يضمّ قصائدهم التي اعتذرت الصحفُ اليوميّة، يومئذٍ، عن نشرها؛ فأصدروه في سنة 1956، غير أنّ الحكومة أمرت بحجبه، وإبعاده عن التداول؛ لأنّها رأت أنّ من قصائده ما لا يجري على مرضاة منها. غيرَ أنّ أولئك الأصدقاء الأربعة، وديوانهم المحجوب بقوا موضعَ ذكر وثناء كلّما ذُكر الشعر في سنوات الخمسين في الموصل خاصّة وفي العراق عامّة. ولقد كنتُ في الموصل أعمل في جامعتها في سنوات الثمانين من القرن الماضي، وأردتُ أن أرى عبد الحليم اللاوند، بقيّةَ أولئك الأصدقاء الأربعة في الموصل، فقيل لي: إنّه في دكّانٍ صغير له في السرجخانة فقصدته عصر يوم من أيّام الخريف، أنا وصاحبٌ لي موصليٌّ خبيرٌ بشعاب المدينة فوجدته قائماً في دكّانه منصرفاً إلى نفسه، مستغرقاً فيها، وكأنّه في حوار معها لا ينقطع . قلت له: ماذا بقي من أولئك الأصدقاء الأربعة ؟ قال: اثنان أطبق عليهما الثرى، يريد شاذلاً وهاشماً، وثالث مدير عام مؤسسة السينما والمسرح، والرابع ينتظر أجله!

ولئن أطبق الثرى، من بعدُ، عليهم جميعاً فلقد كانوا صفحةً مضيئة في الأدب العراقيّ الحديث.

ظلّ هاشم الطعّان مع الشعر؛ ينظمه وينشره حتّى أصدر في سنة 1960 “ غداً نحصد “، ثمّ بدا له أن ينصرف إلى ميدان الدرس والبحث والتحقيق. وكان قد التحق بكليّة الآداب، بقسم اللغة العربيّة، في سنة 1956، وتخرّج في سنة 1960 فاتّضح أمامه طريق الدرس والبحث، ورمى بعينه نحو الدراسات العليا. وانشغل، وهو في الطريق إليها، بتحقيق “ ديوان الحارث بن حلّزة اليشكريّ “، فأصدره في بغداد سنة 1969، وبتحقيق “ ديوان عمرو بن معديكرب الزّبيدي “، فأصدره في بغداد سنة 1970. ونهجه في التحقيق يقوم على الوثاقة والضبط وإخراج النصّ مستقيماً بريئاً ممّا يشوب.

وإذ تهيّأت له الدراسات العليا في كليّة الآداب تخصّص في حقل اللغة، ونال شهادة الماجستير بتحقيق كتاب “ البارع في اللغة “ لأبي عليّ القاليّ، وهو معجم يجري على نهج الخليل الفراهيديّ في “ العين “. وقد دلّ الطعّان، في عمله، على علم متين باللغة ورجالها، ومناهجهم في الدرس والتأليف، ومابينهم من صلة تقوم على اقتداء اللاحق بالسابق في المادّة والمنهج.

وتمّ له بعد نيل الماجستير إحرازُ الدكتوراه بدراسة رصينةٍ متينة عنوانُها “ الأدب الجاهليّ بين لهجات القبائل واللغة الموحّدة “. وعُني بمساهمة العرب القدماء بدراسة اللغاتِ السامية، وبيان ما بينها وبين العربيّة من صلات؛ فوضع في ذلك دراسة نُشرت في سلسلة الموسوعة الصغيرة التي كانت تصدر ببغداد عن دار الشؤون الثقافيّة.

وإذا بدا هاشم الطعّان في ما حقّق، وما كتب في الماجستير والدكتوراه رجلاً من أهل التراث العربيّ يعرف مداخله، ويُحسن القيام عليه؛ فإنّه، مع ذلك، رجلٌ مغموس في عصره؛ فكراً وممارسة؛ إذ عرف العملَ السياسيّ المُنظّم في مطلع حياته، وأخلص له على وضوح رؤية واستقامة نهج؛ وغايتُه منه إقامةُ العدل الاجتماعي، وردُّ الظُلامات عن فئات من الناس مُعدمةٍ؛ فكان أن لقيَ، بسببٍ من ذلك، صنوفاً من الأذى؛ سُجِنَ، وأُقصيَ، ودُفع عمّا هو له؛ غيرَ أنّه بقي وثيقَ النفس، قويَّ الإرادة، مقبلاً على الدرس والتأليف، وعلى الشأن العام؛ لا يني عن عمل مفيد ما أُتيح له؛ فقد ساهم في اتّحاد الأدباء، وعمل في هيئته الإداريّة؛ وكان له صوتٌ واضح وموقفٌ رصين. وهو في عمله كلّه يرعى المؤتلف ويحوطه، ويمدّه بما يشدّ من عضُده، ويحفظُ على المختلف اختلافه. وكان، مع ذلك، يكتب المقالة وينشرها في صحيفة أو مجلّة متناولاً بها رأياً ما، أو قضيّة من القضايا، أو يبسط القول في عَلَمٍ من أعلام الأدب واللغة، أو يقف عند كتاب جديد يعرضه. فقد نشر في مجلّة “الأديب المعاصر”، وفي مجلّة “التراث الشعبيّ”، وفي مجلّة “المورد”، وفي مجلّة “الثقافة الجديدة”. وهو لا يكتب حتّى يُتمَّ الإحاطةَ بما يُريد أن يكتب عنه، وحتّى يُسلّط ذهنَه الناقد على ما بين يديه؛ فلا غروَ أن تجيء كتابته حصيفة محكمةً يلتقي عندها القديم بالجديد على نحو من الائتلاف المنسجم.

وهو، من قبلُ ومن بعدُ، صاحبُ كتاب؛ يحبّ الكتب، ويُقبل عليها إقبال الشَّغف الملهوف، ويبذل في سبيلها من غير حساب حتّى تكوّنت لديه مكتبةٌ ضخمة بآلاف الكتب رأيتُها حين اشترتها، بعد وفاته عام 1981، كليّة التربية للبنات بجامعة الكوفة فإذا بها غنيّة ثريّة لا تُخلُّ بمصدر أو مرجع في اللغة والأدب والتاريخ. ولئن أُعجل فذهب قبل أوانه فلقد بقي منه أصالةُ الرأي وصدقُ الموقف.

عرض مقالات: