اخر الاخبار

رواية (لتمت يا حبيبي) للكاتبة الارجنتينية أريانا هارويكز وترجمة اشراق عبد العادل، ما هي إلا رحيل في ذات الساردة وهي ترتاد عالمها الأنثوي عبر متن سردي يغوص في معاني القلق والتيه الذي تعانيه وهي تجهل كيف تتغلب على أحاسيسها الملدوغة بعقرب التأملات المعقدة والمجهولة في قاع لا وعي امرأة تعاني من اضطرابات نفسية، وهي تشكل رمزية لسفر داخلي في ذات هاربة من واقعها نحو ذهنها المشحون بالرفض لكل ما يحيط بها، والرواية بذلك تتخذ اسلوب (دراما الذهن) في محاكاتها لأحداث تتعلق بشخصية البطلة بصوتها الاحادي وبضمير المتكلم على مساحة واسعة من الرواية فيما عدا صوتا واحدا يشغله زوج البطلة في احد اجزاء الروي القليلة، ومصطلح (دراما الذهن) الذي أطلقه (لوبوك) أكد فيه على ضرورة “اظهار العالم الذهني الداخلي للشخصية أمام القارئ  من دون توسط الراوي، ويكون ذلك الاظهار من خلال الشخصية مباشرة، ولكن مسرحة وأدرمة العالم الذهني للشخصية في هذا المصطلح لا تأخذ سمة الدوام، وذلك لأن (لوبوك) يرجح أن لا ندع الشخصية تكون حاضرة دائما وتدخل بيننا بعقلها الفعال، ولا ندعها تواجه عواطفها مباشرة وهي ترسم تلك العواطف وتجسدها لنا(1) ، وهذا ما ذهب اليه أستاذه (هنري جيمس)، اذ أكد على أن صياغة العالم الداخلي للشخصية وعملياته الذهنية والنفسية حيث يتوصل القارئ الى مصفاة احدى الشخصيات المركزية في الرواية(2) وتلك المصفاة كان زوج البطلة في هذه الرواية بينما في (الأسلوب الذهني) تكون صياغة ذلك العالم وما يقع فيه من اضطرابات وصراعات نفسية وعمليات ذهنية برؤية وتلفظ الراوي وبلاغته الخاصة وقد تمكنت الكاتبة من ذلك بلغتها العميقة بدلالاتها وانسيابيتها التي جعلت المترجمة تدرك كيفية التعامل معها بذكاء في اختيار اللفظ بما يناسب الحكي أثناء توظيفه روائيا، خاصة ان الرواية تتعامل مع حالات نفسية وذهنية تسهم عند تجسيدها في  توسيع أفق الرؤية لدى الراوية، وحيز معرفتها عن الشخصية فلا يقتصر الروي عندها على رصد أبعاد الشخصية السايكولوجية وأوصافها الخارجية، انما  يتعداها إلى تصوير ورصد حالاتها الذهنية والباطنية، وما يتمثل لها من أفكار قامعة في ذهنها  ومستقرة فيه وتكشف هذه الحالات عن التصورات والرغبات المكبوتة التي تدركها الشخصية أو قد لا تدركها، وتبرز قدرة الراوية على اختراق ذهنها ونقله عنها بأسلوبها الخاص، بما يتمثل لنا أن معظم ما تعانيه الشخصية من حالات الكبت قابعا في أعماق اللاشعور، وذلك لأنها تعبر عن الرغبات الممنوعة للشخصية سواء أ كانت من لدن الشخصية ذاتها أم من المجتمع والبيئة التي تحيا بها   فهي مأزومة بعدم القدرة على تحمل حياة رتيبة مشبعة بالملل راغبة في التحرر من قيود العائلة (طفل وزوج وبيت) في محيط ريفي ينأى عن المدينة بطبيعة الحياة فيه، وطبيعة احاطته بالمراعي والغابة التي تكون ملاذا آمنا يصلح للهرب كلما ضاقت على الشخصية تحمل اعباء وجودها .

آلية توظيف البعد النفسي في الرواية

اعتمد الروي في هذه الرواية على صياغة تتوغل في ذهن الشخصية بسهولة ويسر ولكن  بتلفظ الساردة واسلوبها الخاص لتصل بنا إلى شيء من التداعي الحر، وغياب المنطقية والاستمرارية في نقل الافكار لما يعتريها من تشتت، مع غياب الربط في ما يقع للشخصية من أحداث متأزمة لتكون صورة واضحة يوفرها حدث مع حدث آخر؛ ذلك أن الكاتبة رمت في اغلب مفاصل الروي إلى توظيف الحالة الذهنية المتمثلة بـ(حلم اليقظة) وكانت صياغتها السردية تذهب إلى اظهار البعد الفني في توظيف الأساليب السردية اللفظية  للكشف عن العوالم الداخلية لشخصيتها الروائية، واظهار ثيمة البعد النفسي لها عند توظيف مثل هذه الحالة الذهنية لا سيما فيما يتعلق بتحقيق الرغبة الذي يؤكده (فرويد) بأن هذه الأحلام أي (أحلام اليقظة)(تكون كأحلام النوم لها سبب أو غاية تصل بواسطتها الشخصية الى رغباتها المكبوتة التي حالت الظروف الواقعية دون تحقيقها، فتحقق هذه الأحلام للشخصية عندما ترتادها فيما تطمح إليه)(3) .  

إن اسلوب دراما الذهن الذي اتبعته الكاتبة وشح بوشاح الخوف والهلع والوحشية في بعض الاحيان فيما تخوضه البطلة من تداعيات وما تقوم به من افعال، وقد امتد ذلك ليشمل واقع الشخصية وتأزمها وصراعاتها النفسية، والوصول بها إلى عالم انقطاع الصلة بالعاطفة المتوقعة تجاه الزوج أو الابن، الأمر الذي يؤدي بها في النهاية إلى قتلهما، مع عناية الكاتبة بإظهار انعكاس مخاوف الشخصية وتصوراتها التي لم تنطق بها ولم تصغها بواقع صياغة ذهنية تفصح عن ما يدور في خلجات نفسها وغياهب لا وعيها فيما يخص ارتكابها عملية القتل، لذا جاء الروي بصياغة أسلوبية ذهنية تبنتها الراوية بأسلوبها الخاص البعيد عن تلفظ الشخصية، والقريب من إحساسها وأفكارها بشكل يوحي بوجود استقرار ذهني للراوية داخل الشخصية، فكانت تنقل عنها بشيء من الاختزال رغباتها المتسمة بالشهوانية والعنف، وغياب التسلسل والترتيب في ظل عملية نقل لمعاناة الشخصية وهي تسترجع (حلم) مر بشريط ذاكرتها ونسيج ذكرياتها في احد المقاطع، بشيء من الخوف المفزع، والهلع المريب، وحمل لها التنبؤ برهانات مستقبلية غيبية مخيفة أي أن هذا (الحلم) قد اجتاز حاجز الغيب المكاني والزماني، لأن ما دار فيه من اعتداء على طفلة من قبل الأب  كان غير واضح المعالم ولم تكن تعلم الشخصية هل أن ما تراه هو أمر واقع فعلا أم أنه مجرد تخيلات مفزعة جسدت مخاوفها وصراعاتها النفسية القلقة؛ لذا نجد الشخصية تشهد في ظل عدم المعرفية هذه، وعدم الادراك غياب في الخيوط الفاصلة بين وعيها ولا وعيها أو ما دون وعيها مما يسهم في الكشف عن المحتوى الباطني اللا واعي أو اللاشعوري للشخصية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1 ـ ينظر: صنعة الرواية، بيرسي لوبوك، تر: عبد الستار جواد، دار الرشيد، بغداد 1981، ص134و 135 و137.

2 ـ نظرية الرواية في الأدب الأنكليزي الحديث، جيمس وآخرون، تر: انجيل بطرس سمعان، مراجعة: رشاد رشدي ص24، 1971 .

3 ـ دراسات في علم النفس الأدبي، حامد عبد القادر/ المطبعة النموذجية- مصر.

عرض مقالات: