اخر الاخبار

رواية جاسم مطير الموسومة “مذكرات سجان: بعد خراب البصرة”، رواية إعترافية بامتياز.  فهي تنهض على فكرة قيام بطل الرواية (عبد الهادي) وهو ضابط شرطة، أشتهر بالقسوة والعنف في تعذيب المعتقلين والمتهمين، بتقديم سلسلة اعترافات عن عمله، بعد صحوة ضمير دفعته لمراجعة نفسه، وتقديم كشف حساب عن جرائمه التي إرتكبها بحق الأبرياء، كما قدم كشفاً عن الجرائم البشعة التي كان يرتكبها يومياً زبانية النظام البعثي الذي تسلقوا السلطة بعد انقلاب الثامن من شباط الأسود عام 1963، والذين اطلقوا العنان لعصابات (الحرس القومي) الفاشية لممارسة صنوف الاستبداد ضد شرائح الشعب المختلفة.

تبدأ الرواية بسرد ذاتي مبأر، على  شكل مونولوغ داخلي يحاكم فيه بطل الرواية عبد الهادي نفسه كمدخل لسلسلة لا تنتهي من الاعترافات الذاتية، إذْ يجد البطل نفسه أمام إتهام بأنه “ملوم” لإرتكابه كل هذه الجرائم، لكنه يحاول أن يبرر ذلك بأنه فعل ذلك إستجابة لما تمليه عليه طبيعة وظيفته:

“لست ملوماً يا الله. أنا مرؤوس. أنت خلقتني مرؤوسا يا ربيً. يأمرني رئيس أقوى مني، أنت خلقته رئيساً عليّ يا ربي، وخلقتني منفذاً لأوامره.” (ص7)

وهكذا يتحول دفاع البطل عبد الهادي عن نفسه الى شكل من أشكال السيرة الذاتية الاوتوبيوغرافية، من خلال توظيف ضمير التكلم (أنا) والتي يكون فيها الراوي مركز ذاته، ومركز السرد.

ويعترف الراوي بقبح وقذارة مهنة السجان التي يمارسها:

“في مهنة السجون قبح غريب يمارسه السجان في دنيا صغيرة مسوّرة بالحديد والسياط ونيران اللحظة المناسبة.” (ص 10)

والرواية فضلاً عن كونها رواية شخصية لأنها تدور حول إعنرافات ضابط الشرطة السجان عبد الهادي، فهي أيضاً، وبالدرجة الأولى رواية إعترافات ذاتية من خلال البوح الذاتي لدخائل النفس الانسانية، ماخفي منها وما ظهر.

ورواية جاسم مطير، هي أيضاً، والى درجة كبيرة رواية عن المكان، وتحديداً عن مدينة البصرة، التي كتب عنها الروائي بحب كبير، ترنيمة حب صوفي، غطى فيها الجوانب الفكرية والسياسية والاجتماعية.كما توقف عند مراحل تطورها وحاضرها ومناضليها ورموزها،حتى يمكن القول أن هذه الرواية هي بمثابة” مقامة”   عن البصرة،تضاف الى المقامة البصرية التي كتبها الحريري وتلك التي كتبها الهمذاني والمقامة البصرية التي كتبها كتبها حديثاً الروائي مهدي عيسى الصقر، فضلاً عن مقامة القاص الكبير محمد خضير عن” بصرياثا”.

ومما يدفعنا الى الحديث عن مقامة روائية للمؤلف، إشارته في النهاية، وتحديداً في هامش رقم(٢)،الى مقامة الحريري البصرية والتي جاء فيها :

“يا أهل البصرة، بلدكم أوفى البلاد،وأظهرها، وأزكاها فطرةً، وأوسعها دجلةً، وأكثرها نهراً ونخلةً، وأحسنها تفصيلاً وجملةً٠” (٢٥٣).

والرواية من جانب آخر تكشف عن بعد ميتا سردي،إذ يشير بطلها عبد الهادي الى أنه بأوراقه يعترف بأن خدمته في سلك الشرطة لم تكن الا لخدمة المتسلطين على الدولة. (١٥).

والرواية تقدم تاريخاً حياً لمدينة البصرة،أسواقها،محلاتها،عوائلها، ابرز مناضليها ومنهم (عمار بن عبد الهادي) الذي تحول الى مناضل ضد نظام الحرس القومي آنذاك،وإلتحق بحرب الانصار في الجبال،كما إلتحق لاحقاً بحرب الاهوار التي قتل فيها. وكان عبد الهادي صديقاً ورفيقاً لمناضل آخر هو شاكر محمود،ويبدو أنه قد أثر في توجهاته الفكرية والسياسية.

ويخيل لي من السياق الروائي والتاريخي  أن شاكر محمود هذا هو الأسم الحركي لمؤلف هذه الرواية (جاسم مطير) نفسه، والذي انتهى به المطاف سجيناً في سجن “نقرة السلمان” سيء الصيت، لكنه من جانب آخر، أنقذه  من الوقوع في براثن جلادي الحرس القومي الذين كانوا يبحثون عنه آنذاك.

وتكشف الرواية ضمن منحاها الميتا سردي، ظهور أصوات سردية جديدة،فضلاً عن الصوت السردي المهيمن لبطلها ضابط الشرطة السجان عبد الهادي،تتمثل في أصوات (حارث ابن عبد الهادي) الذي كتب (هامش رقم ٢)(ص 252) وصوت (أم عمار) التي دونت هامش رقم “3” (ص 254)، فضلاً عن أصوات سردية أخرى منها صوت مدرس التاريخ (ناصر جابر) الذي كان يتغنى دائماً بتاريخ البصرة وابنائها وحضارتها ويمتلك ثقافة موسوعية متكاملة عن البصرة ومروياتها وابنائها، لكنه قتل آنذاك من قبل أعداء الحياة،جلادي البعث.

ومن الجانب الآخر نجد حضوراً في توظيف الميثولوجية الرافدينية، وبشكل خاص في استحضار اسطورة (عشتار)، حيث نشاهد (حارث بن عبد الهادي) يتوسل بعشتار “أم المصائب والعقاب” كما يقول أن تحل عقدة المدينة:

“ياعشتار، يا أم المصائب والعقاب، حلّي عقدة المدينة، انظري ماذا حل بهذه المدينة الطيبة من وباء شباط.” (ص 248)

ومن الملاحظ أن المؤلف قد “أسطر” جرائم انقلابيي شباط 1963 وأحالها الى وباء شامل، وتوسل بعشتار أن تنقذ المدينة منه. 

ومن الواضح أن (عمار) يتوسل عشتار مدركاً وظيفتها في العالم السفلي في الميثولوجيا الرافدينية القديمة.  وتتخذ الأسطورة وجهاً آخر عندما راح حارث يردد هذا النداء مائة مرة أمام القمر، ومن على سطح الدار، في ثلاث ليال متتالية، طالباً من عشتار الصفح، وشاركه في ذلك لاحقاً أبناء المدينة.  ويبدو أن هذا النداء الميثولوجي وهو تقليد شعبي فولكلوري اصلاً،  فقد كان الناس مثلاً يقرعون الطبول لكي تفك أسر القمر عندما يكون في حالة خسوف، وهذا التوسل قد دفع عشتار، كما كان يعتقد الناس، الى أن تفك عقدة المدينة، وتنزل العقاب على جلادي الحرس القومي، إذْ سقط بعدها الحرس القومي:

“سقط الحرس القومي وانحل

سقطت فاشيته في مزبلة التاريخ

خرج المتعطلون من بيوتهم.  “(ص 249)  

وهنا كما هو واضح إشارة الى الإنقلاب انقلاب ١٨ تشرين الثاني 1963 الذي قام به رئيس الجمهورية آنذاك، عبد السلام عارف  ضد هيمنة البعث والحرس القومي شركائه السابقين على الحكم آنذاك.

ويتواصل التفسير الأسطوري لسقوط الحرس القومي في رد الجميل لعشتار :

“في قطعة قماش مذهبة قدمت هدية من الناس الى عشتار عاهدتهم عشتار ان الحياة لن تتوقف في المدينة بعد اليوم، فقد فكت بنفسها سحر الشر عن شاعر القصيدة.” (ص 25) 

والرواية في الأصل تحمل عنوناً فرعياً هو “بعد خراب البصر” وهي عبارة شائعة كثيراً بين أبناء البصرة، وتقدم لها الكثير من التفسيرات المتباينة، ما تنفع الحسرة” والمهم أن نكتشف دلالة هذا التعبير بالنسبة لثيمة الرواية. إذْ تروي كتب التاريخ أن مدينة البصرة قد تعرضت في زمن الخليفة العباسي المعتمد بن المتوكل عام 819 الى أعمال سلب ونهب وتخريب قام بها بعض المهاجرين والعاملين الغرباء دمرت معظم معالم البصرة وأسواقها وبيوتها، مما دعا الناس الى الأستنجاد بالخليفة العباسي الذي ارسل أخاه على رأس جيش قوي استطاع أن يقضي على المخربين، ويعيد الأمن للمدينة المنكوبة، لكن الناس كانوا يشعرون بالحسرة على ما آلت إليه مدينتهم من دمار، حيث لا فائدة من أي هدوء واستقراء بعد خراب البصرة،وما تعرضت له من دمار واستباحة.

وهكذا كان هو حال البصرة بعد سقوط نظام البعث وحرسه القومي الفاشي في 8 شباط 1963، على يدي رئيس الجمهورية عبد السلام عارف شريكهم الرئيس في انقلاب الثامن من شباط الأسود عام 1963. إذْ أحس الناس بأن المدينة قد تعرضت الى الخراب والدمار والمهانة، وان التصحيح قد جاء بعد خراب البصرة:

“استسلم جميع الناس في البصرة بعد خرابها الى استرخاء مفاجئ، كبداية لفسح الطريق أمام ظهور معالجات جديدة تستغرق زمناً طويلاً من الانفعالات التي نجمت عن تعقيدات الغرف المظلمة الكثيرة. “(ص 246)

كما يمكن أن نفترض تأويلياً اعترافات السجان عبد الهادي، فهي  لم تعد تنفع لأنها جاءت بعد خراب البصرة.

وتنطوي رواية جاسم مطير هذه على الكثير من الحبكات والثيمات الفرعية منها حياة المهندس(عمار عبد الهادي) البطولية وهو ابن السجان عبد الهادي وزوجته شيماء التي تعرضت الى أبشع صنوف التعذيب في أقبية الحرس القومي، كما نحمل أهمية خاصة تجربة المناضل (محمود شاكر)، الذي كان قد نقل الى سجن (نقرة السلمان) قبيل انقلاب الثامن من شباط، وعلاقته بكتابة (القصيدة) التي عجز الجميع عن معرفة كاتبها، مع أنها انتشرت بين الناس، وأصبحت دافعاً قوياً لهم للمقاومة والرفض، وهي تذكرنا بقصائد الشاعر الراحل مظفر النواب مثل قصيدة “براءة” التي كانت تنتشر بين السجناء والناس انتشار النار في الهشيم. ويقال أن القصيدة وجدت في ملابس المهندس (عمار عبد الهادي) بعد قتله في الأهوار، وهناك من يعتقد أنه كاتبها، ولذا حاول الأب (عبد الهادي) أن يعرف اسم الكاتب الحقيقي:

“يا إلهي أعنّي على معرفة الشاعر، أكاد أجن من البحث والعناء.” (ص 160)

وفوجئ عبد الهادي ذات يوم بولده الأصغر حارث وهو يقرأ القصيدة من جديد قائلاً:

“ما أستطعت أن أعرف حتى الآن الذي كتب القصيدة.” (ص 160)

ويبدو أن الجميع قد بات مقتنعاً بأن القصيدة قد كتبت بصورة جماعية من قبل عدد من الادباء والمناضلين الذين أرادوا أن يوصلوا أصواتهم الى أبناء شعبهم.

رواية جاسم مطير “مذكرات سجان: بعد خراب البصرة” رواية ضد العنف والتعذيب والارهاب، ودفاع حار عن الانسان المضطهد، وهي ايضاً ترنيمة عشق لمدينة البصرة، وتتويج لتاريخها وابنائها ومناضاليها، مما يحق لنا أن نعدّها بحق بمثابة “مقامة” عصرية عن مدينة البصرة.

عرض مقالات: