اخر الاخبار

في يوم من مطالع شتاء 1982، قال لي صديقي محمّد كريم إبراهيم، ونحن في كليّة الآداب، في ممرّ قسم التاريخ، قُبالةَ مكتبة الدراسات العليا : ما رأيُكَ أن نزور أستاذنا فيصل السامر؛ فقد ثقُل به المرض ؟ قلت : يسرّني !

كنتُ أرى فيصل السامر، في تلك الأيّام، في  أروقة قسم التاريخ، شاحبَ الوجه، وئيدَ الخطا؛ قد أخذت منه العلّةُ مأخذها؛ لكنّ مرآه ذاك لم ينل من  صورةٍ قديمة، قويّةٍ، واضحةِ المعالم، ائتلفتْ عناصرها شيئاً إلى شيء، وتماسكت أركانها ركناً بركن.

كانت حياته قد بدأت في البصرة، في سنة 1925، في أسرة كريمة من وجوه الناس؛ فنشأ قويمَ البناء، بفطرة سليمة، تُدنيه من موارد الخير، وتنأى به عن مواضع السوء، مقبلاً على الدرس والتزوّد من المعرفة؛ حتّى إذا أتمّ خطواته الأولى  في البصرة، قصد بغداد ليتمّ الدراسة الثانويّة فيها، ثمّ قصد مصر ليُتمّ الدراسة الجامعيّة؛ وقد عرفت مقاعدُ الدرس فيه طالباً نابهاً، يقظَ الفؤاد؛ يقرأ، ويستوعبُ، ويتساءل، ويريد أن تتّصل المعرفةُ بحياة الناس، وأن تزيدهم بصيرة بما هم فيه. وإذ حان أوانُ اختيار  ميدان الدراسة  في الجامعة اختار“التاريخ“؛ ذلك أنّه مستودعُ التجربة البشريّة، بخيرها وشرّها، بسموّها وبضعتها ! واختار منه التاريخ العربيّ الإسلاميّ، ومضى من هذا التاريخ الزاخر اللَجِب إلى الحركات الاجتماعيّة؛ إذ كان يرى أنّ التاريخ لايتمّ إلّا بالوقوف على المجتمع وما يضطرب فيه من فكر وصراع، وأنّ قصر العناية على جانب الحرب والقتال، وقيامِ الدول وسقوطها؛ أمرٌ مخلّ، يُغفل جوانب خطيرة من حياة الناس. ومن أجل أن تتكاملَ أبعادُ التاريخ، وأن تظهرَ حوادثُ المجتمع إلى جوار حوادث السياسة؛ اتّجه بدراسته نحو الحركات الاجتماعيّة، وتناول منها  حركة الزنج في العصر العبّاسيّ، وأثرها في تاريخ الدولة. وهو أوّل من كتب عنها، وبسط القول في شأنها، ولمَّ أشتاتَها من كتب التاريخ والأدب، ووقف على دوافعها، فأنشأ لها تاريخاً واضح المعالم. وحين أصدر دراسته في كتاب، في سنة 1954، جعل عنوانه :“ثورة الزنج“، وأهداه :“إلى الباحثين عن الحقيقة، العاملين على إظهارها، الهادفين نحو إخراجها إلى مجال العمل.”

وليس قليلاً أن تُسمّى حركةُ الزنج“ثورةً“في بلد كالعراق نظامُ الحكم فيه ملكيٌّ يخشى“الثورة“وما يتّصل بها؛ لكنّ السامر كان صادقاً جريئاً يأبى الظلم حيثما وقع، وينبّه على سوء عواقبه، ويشترع طريقاً في دفعه، ويسعى لإقامة العدل. ولعلّه، وهو يكتب عن الزنج في البصرة في القرن الثالث الهجريّ  وعن ظُلامتهم، لم يكن خاليَ الذهن والروح ممّا يلقاه عراقيّون يعرفهم في أرياف البلد وقُراه !

نال شهادة الماجستير بحركة الزنج، ثمّ عاد إلى مصر ليُحرز الدكتوراه في تاريخ قيام الدول، ودواعيه الموجبة  فكتب“الدولة الحمدانيّة في الموصل وحلب“؛ فتكاملت في نهجه مناحي التاريخ السياسيّ والاجتماعيّ، واتّضحت له  رؤيةُ الحوادثِ؛ في أسبابها ونتائجها، وفي ما يُحيط بها من جوّ، وما يكمن خلفها من فكر.

وإذ عاد إلى بغداد، وأخذ يعمل في دار المعلمين العالية كان ثقيلاً على السلطة، على هدوئه ودماثة خلقه. وكانت السلطة القائمة يومئذٍ، في العهد الملكيّ،  تعرف فيه رجلاً ذا فكر يناهض ما هي عليه؛ فكان أن فُصل من العمل، مع أمثاله ممّن كان يُنبّه على المفاسد، وسيق إلى الجيش. غير أنّ ذلك لم يفتَّ في عضُده، ولم يصرفه عمّا رسم نفسَه له. حتّى إذا قامت الجُمهوريّة، في سنة 1958، رجع إلى عمله، وهو على نهجه من وضوح الفكر واستقامته؛ فتولّى منصبَ مدير التعليم العام في وزارة المعارف، وعمل، مع غيره، على إنشاء نقابةٍ للمعلمين؛ تكون صوتَهم، وتحفظ حقّهم؛ فأُنشئت،  وكان أوّل نقيبٍ لها.  ثمّ أُسندت إليه وزارة الإرشاد في 7 – 7 – 1959،  وكان من صنعه فيها أن أنشأ وكالة الأنباء العراقيّة. بقي في الوزارة  حتّى أيار 1961،   ثمّ استعفى منها، وذهب وزيراً مفوّضاً في إندونيسيا وماليزيا من سنة 1961 حتّى شهر شباط 1963.

كان فيصل السامر من رجال العهد الجُمهوريّ الأوّل، بالفكر والممارسة، فلمّا ذهب العهدُ وقع عليه ما وقع على الآخرين من أمثاله؛ فأُقصي من منصبه، وأُسقطت“جنسيّته“، وحِيل بينه وبين بلده؛ فصار إلى“براغ“مع من صار إليها. وهناك، في براغ،  استأنف عملاً جديداً، هو في الصميم ممّا اقتضته الحال القائمة، يومئذٍ،  في العراق؛ ذلك هو قيام“حركة الدفاع عن الشعب العراقيّ“برئاسة محمّد مهدي الجواهريّ؛ إذ كان للسامر فيها مكان رفيع، لصدقه وإخلاصه وجرأته الهادئة، ولنزاهته عمّا يشين؛ حتّى كان الجواهريّ، من بعدُ، في ذكرياته لا يذكر فيصل السامر، في هذا المورد، إلّا بالتقدير والاعتزاز.

ومضى به زمنُ الغربة وهو متماسك البناء، ماضي الإرادة، يعمل من أجل بلده عملاً صادقاً بريئاً ممّا يشوب؛ حتّى إذا هدأ البلد، وقرّ قراره بنحو ما، وصار متاحاً له أن يرجع؛ رجع وفي عزمه أن ينصرف إلى الدرس والتأليف، وإلى الجامعة بكلّ ما تقتضيه؛ فكتب :“العرب والحضارة الأوربيّة“ وكان أوّل كتاب يُنشر في الموسوعة الصغيرة، في سنة 1977.  وكتب“الأصول التاريخيّة للحضارة العربيّة الإسلاميّة  في الشرق الأقصى“ونُشر في بغداد في سنة 1977، وكأنّه ممّا استوحاه  في إندونيسيا وماليزيا يوم كان هناك. ووضع كتاباً عن ابن الأثير المؤرّخ نُشر في سنة 1983.

وهو في كلّ ما كتب يُعنى بالفكر؛ يقف عنده حين يكون صريحاً واضحاً، ويستنبطه من الحوادث حين يكون خفيّاً كامناً فيها، ويفسّر الوقائع بما يحيط بها، ويجعلها في سلسلة من الأسباب والنتائج.

وكتابته فصيحةٌ مبينةٌ بعيدةٌ عن المعاظلة؛  إذ يُورد الأفكار مترابطةً يُفضي بعضُها إلى بعض حتّى يتكاملَ ما يذهب إليه.

تلك كانت صورته القويّة الواضحة، ولن يمسك الذهن بغيرها !

كان بيته قريباً من كليّة الآداب؛ في الوزيريّة، في شارع يقابل المكتبة المركزيّة، وكنّا عند بابه؛ ظهرتْ سيّدةٌ من الدار، وقالت : لقد ذهب قبل أيّام إلى لندن لاستكمال علاجه. خالجنا شعور أنّا لن نراه من بعدُ؛ فلم تمضِ إلّا أيّام قليلة حتّى جاء النبأ أنّه مات هناك...!

عرض مقالات: