اخر الاخبار

“لا تقلقي  يا عزيزتي، ستكونين اول من أخبره عندما يقرع عزرائيل  باب بيتي. ثم انزل قدمه اليمنى على الرصيف تتبعها الأخرى، ومضى يدفع  بجسده دفعا وكأنه يسير للمرة الأولى في حياته”

هذه نهاية  للرواية، بين  نهايات متعددة “لمتنزه الحريم”، رواية العراقي عبد الهادي السعدون.هي رواية بأذناب ثلاث على الأقل. في نهاية اكثر من فصل من متنزه الحريم  نستعد لنهاية  الأحداث لكن الرواية، على قصرها، 70 صفحة فقط، تستمر في قفزة جديدة  وبالتأكيد لن تنتهي في  العبارة الأخيرة التي توقعها الكاتب  والقاريء بالطبع. في حركة لولبية  تدور الأحداث بين ثلاثة مدن : بغداد مسقط راس شخصية الرواية الأولى، مدريد،  طنجة  ثم العكس في لعبة فنية باهرة. ثلاث شخصيات فقط وهوامش، كما في عمل مسرحي،  تخلق الوقائع وتتبعها بمسيرة  قدرية  هي مسيرة من لا  اقدام لهم على ارض بلدانهم. سرد استباقي احيانا  وآخر في الحاضر  يشتبكان  من دون نتائج حاسمة.

سيدي الذي يعيش في مدريد   في سنوات آخر العمر يعيش وحيدا، حاله حال المتقاعدين في المدن الكبيرة في الغرب الأوربي. اصبح اسبانيا في اللغة والعيش والعادات لكنه في داخله عراقي محبط من تجارب حياته الماضية. لسيدي اسماء أخرى  هي نتاج مسيرته القلقة في الحياة. ماضيه ملتصق به وحده ولا احد يعرفه. سلطانة الأسبانية  مثله، شخصية قلقة  بأسماء متعددة، وبماض  مضطرب  بين ثلاث مدن ايضا : الحسيمة  مسقط رأسها، طنجة، مدريد. لكنهما الأثنين  يشعران بالسكينة والأنسجام حينما يلتقيان وكأنهما مثل سلك كهربائي بموجبه و سالبه. في لقاءاتهما نشعر بتوهج نور مصباح العاطفة، علاقة اقرب الى الحب دون ان تكون عشقا بل انسجاما بين اثنين مقطوعين من شجرة  كما يقول التعبير المصري.

بين هذه اللقاءات  يوجه الراوي الضوء على سيرة الأثنين، على الماضي الشائك والحزين لكل منهما. في عبارات بسيطة وبلغة واضحة، ناصعة، نتبع مجرى حياة كل منهما حتى ساعة الرواية فالحدث المهم في هذه الرواية مؤجل وفي الوقت نفسه مخفي  بين سطور الراوي، حسب السطر الأخير يوحي به. دخول شخصية” الطنجاوي” سيكون محرك الأحداث التي  تعطي للرواية حيويتها ولا تجعلها سيرة  لرجل ضائع في الزمن و أمرأة ، ربما اكثر ضياعا    بل سيرة مصائر  صعبة تخلقها الرغبة في الحرية والتحرر  من الواقع العبودي سواء للمرأة او الرجل. تنقلات بين المدن، هروب من مكان لآخر في حبكة اقرب الى حبكة رواية بوليسية. خلال ذلك نطلع على تفاصيل حيوات سرية، سواء في بغداد حيث عاش سيدي بأسمه الأول قبل ان يكون سيدي الأسباني، حيث  الهروب المستمر من الشرطة السرية و رجال الأمن والتنقل من وكر لآخر والمأساة العائلية ثم الهروب من طنجة خوفا من بطش العربي القواد  ثم التخفي في مدريد. كذلك فأن حياة سلطانة  حينما كان اسمها ماريا في الحسيمة، مسقط رأسها، وهروبها من العائلة الأسبانية ثم  هروبها من براثن العربي واخيرا حياتها السرية في مدريد. لا يتوقف الراوي في ملاحظات تنير ظلمة الأحداث حيث العودة دائما الى الوراء. الى العالم السري في حياة سيدي حيث السياسة بظرفها الصعب او الحياة الأكثر صعوبة لسلطانة في المبغى الكبير لطنجة” متنزه الحريم” حيث القمع والعنف والأستغلال بأجلى صوره. هكذا، فكلما انتهى حدث مهم في حياة واحد من الشخصيتين فأن القارىء يتوقع انتهاء الرواية نهاية سعيدة  لكن فصلا جديدا يعود بنا الى” قلب الظلمة” من جديد. في هذه التنقلات ايضا  تتغير  النظرات الى الواقع وفنطازيته.  ففي فقرات من الروي او القص كأننا امام عين الأرجنتيني خوليو كورتثار  واخرى  اما عين الكولومبي جابرييل ماركيز. هذه الفنتازيا، سواء كانت بصورة احلام كابوسية او  او وصف احداث مبالغ بها تعطي لأسلوب عبد الهادي السعدون في القص خيال و نكهة اللغة الأسبانية  التي صارت لغته الثانية بعد هذا الزمن الأسباني الطويل.

رواية”متنزه الحريم” رواية المصائر المرة  لمن لم تثبت الأرض تحت اقدامهم فجعلتهم رياح الأقدار في تيه كبير  لا يخفف  من وحشيته الرغبة في النسيان  بل الحب والصداقة والأمل بلقاء في يوم قادم يعطي للزمن معناه على الأقل، من دون ان يعيد المياة الى مجاري الأنهار.

عرض مقالات: