من تمامِ المرءِ أن يتجلّى فكرُه في سلوكه على نحو مُحْكَم صحيحِ البناء ، وأن يتّسق يومُه مع أمسه ، وأن يكون في ذلك كلّه مع الناس ؛ ينصرهم على قُوى الشرّ ويدفع عنهم الأذى ما استطاع إلى ذلك . وقد كان لكامل شياع أشياءُ حسنةٌ من ذلك تُذكر كلّما ذكر . كان في صدر حياته مقبلاً على شأنه ؛ يقرأ وينظر ويتأمل ، ويريد أن يبني حياته على الصدق في ما يأخذ وما يدع ، وأن يطابق الظاهرُ الباطنَ . وسبيله إلى ذلك معرفةٌ رصينةٌ ، وحبٌّ  للخير يصنعه في مدار حياته ، ويَلقى به من حوله .

كان في صدر حياته حين ضاق به الأفق ، وأُريدَ على خلاف ما انطوى عليه ، فامتُحنَ في نفسه ، وفي فكره ، وفي ما أراد أن يبني حياته منه ؛ ولم يكن له إلّا أن يغادر البلد ؛ فغادر في سنة 1979 ، وهو فتى لمّا يزلْ في أوّل الدرب ،  قليلٌ من يعرفه يومئذٍ ! 

لكنّ المَهاجرَ عرفتْ فيه فتى وثيقَ النفس ملتئمَ القُوى ، لا يفتأ يسعى في بناء نفسه ، لا يُمضي وقته إلّا بما هو رصين نافع . وعرف هو في نفسه رجلَ فكر ، ورجلَ شأن عامّ ؛ وكلا الرجلين في إهاب واحد ؛ إذ قد اتضح له أنّ الشأن العامّ لا يُزاول على الوجه الصحيح إلّا بفكر واضحٍ متماسك قادر على صياغة مجرى الحياة ، وأنّ الفكر إذا انعزل عن الناس وشؤونهم جفّت منابعه ، واستحال لعبة ألفاظ .

كانت شهادته الأولى التي نالها في بغداد ، في اللغة الإنكليزيّة وآدابها ، وكان قد عمل بها في المدارس الثانويّة  قبل أن يغادر البلد ؛ لكنّه حين أراد ، من بعدُ ، أن يستأنف تحصيله المعرفي اتّجه إلى الفلسفة ، واتّخذ له فيها باباً وثيقَ الصلة بالمجتمع وقضاياه  مثلما هو وثيقُ الصلة بما كان يحلم به ويسعى إليه فكتب : “ اليوتوبيا معياراً نقديّا “ . وإذ درس الفكرَ الساعي نحو مدينة فاضلة ؛ يظهر فيها العدل ، ويختفي الجور ، ويُقيم الإنسانُ حياته على كلّ أبعادها ؛ فإنّما يضمر صورةَ المدينة الظالمة ؛ حيث يختفي العدل ، ويسود الجور ،  ويضمحلّ الإنسان . ولا ريب في أنّ اليوتوبيا تجيء لتُصلح ما أفسدته الديستوبيا ! ووراء ذلك كلّه تقوم ، في ذهنه ، العواملُ التي دفعت به أن يغادر بلده ، ويلوذ بالمهاجر !

أفادته دراسةُ الفلسفةِ في أن جعلت أمرَ السياسة ، وإدارةِ المجتمع شيئاً واضحاً ، متماسك الأركان ؛ تتنزّل الأفكار فيه منازلها على وفق خطرها في تحقيق الغاية المنشودة . وعلى هذا النهج واظبَ على الكتابة والنشر ، ومعالجةِ شتّى القضايا ؛ فقد كتب في الفكر الخالص ، وكتب في السياسة بأحداثها ووقائعها ، وكتب في الأدب والفنّ ؛ وقد كان في ذلك كلّه هادئَ القلم ، قويّ الحجّة ، يُعنى بما ينبغي أن يلتقي عليه أبناءُ البلد ، مع حفظ ما يختلفون فيه ؛ حتّى إذا قامت الحربُ ، وزالت موانعُ عودته إلى البلد كان في أوائل العائدين على الرغم من التباس الأمر واضطرابه ، وعلى الرغم من نصيحة أصدقاء كانوا يخشون عواقب العودة على رجل أعزل  !  لكنّه عاد مدفوعاً بما رصد نفسه له من رصانة فكر ، واستنارة ، وإشاعة القيم الرفيعة  بين الناس ؛ إذ ليس من الصواب ، عنده ، أن ينأى ذو الثقافة بنفسه ، وقد أُتيح له جانب من العمل ! قال في سنة 2005 ، بعد سنتين من عودته : “ عدتُ إلى العراق قبل عامين ، تاركاً ورائي قرابة خمسة وعشرين عاماً من الهجرة القسريّة . تلك العودة إلى ما حسبته ملاذي الآخر أو الأخير ؛ علّلتها لنفسي بأنّ فصلاً من حياتي صار ماضياً ينبغي طيّه فطويته ، وأن فصلاً آخر قد فتح احتمالاته على مصراعيها أمامي فاستجبتُ إليه .” ويقول في السياق نفسه : “ رحلةُ العودة وضعتني شيئاً فشيئاً إزاءَ اختيارات صعبة لم أكن أعي دلالاتها أو أقدر أبعادها ...وأوقفتني بعيداً عن الأفكار المجرّدة حول التاريخ العام لاكتشف تنوّع التاريخ المحلّي وتعقيده والتواءه ... وضعتني هذه الرحلة وجهاً لوجه أمام موت جارف ، وشيك وعبثي .” ومع إدراكه خطر ما هو فيه ؛ فإنّ الأمل لم يفارقه في أن يكون عنصراً قويّاً في إنشاء ثقافة حرّة مستنيرة تُشيعُ الحقّ والخير والجمال ؛ ومن أجل ذلك جعل من قلمه وسلوكه مجلى ما يصبو إليه .

ولم يكن به خفاء على سادة الظلام ؛ فقد عرفوا قدره ، وأدركوا خطره ، فنصبوا له حِبالتَهم ، وأردوه  جهرةً على طريق عامّ ! ولم يكن الإيقاع به صعباً فقد ظلّ ، مثلما كان ، رجلاً أعزل إلّا من فكر وقلم ! لكنّ حياةَ من هو مثله لا تنتهي بالموت ؛ بل إنّها تأخذ مدى آخر أوسع ؛ فقد انتشر اسمه ، وذاع نهجه في الحياة والفكر ،  وعادتِ الناسُ تبحث عمّا كتب ونشر . وإذا لم يكن قد تهيّأ له أن يُصدر كتاباً في حياته ؛ فقد تهيّأ له ، من بعدُ ، من يقوم على بحوثه ومقالاته ، ويصنّفها ، وينشرها في كتب . فقد أصدرت ( المدى ) في سنة 2012 كتابه : “ اليوتوبيا معياراً نقديّاً “ وهو الدراسة التي نال بها شهادة الماجستير في الفلسفة من معهد هوغر في بلجيكا ، وأصدرت في سنة 2019 : “ قراءات في الفكر العربيّ والإسلاميّ “ ، و “ الفلسفة ومفترق ما بعد الحداثة “ وهما كتابان دالّان على مدى تضلّعه ، ورصانة فكره من حيث التقصّي والمحاججة ، ورحابة الرؤية . وأصدرت أيضاً في السنة نفسها : “ تأمّلات في الشأن العراقيّ “ وهو مقالات نافذة البصيرة في ما وقع في العراق ، وما يقع ؛ عالج بها شأناً مضطرباً بقلم هادئ رصين . وأصدرت في سنة 2021 : “ أوراق كامل شياع في الشأن الثقافيّ ، الرواية والفن والشعر “ وهو مقالاته الثقافيّة الأدبيّة ، وقد أعرب فيها عن حسّ أدبيّ فنّيّ يقدّر القيم الجماليّة في الآثار الفنيّة .

لقد كانت حياةُ كامل شياع منسوجةً من الفكر في صفائه وعمقه ، والسياسة في أحداثها وغاياتها ، والفنّ في صدقه وأصالته وجماله ؛  وقد انسجم ذلك كلّه وائتلف على نحو فريد في الانسجام والائتلاف ...

عرض مقالات: