اخر الاخبار

تقتضي الحرفةُ في مضمارِ الصنعةِ جهداً معرفياً وترحالاً لا يعرف الكللَ في دروبِ المعرفةِ وفضاءاتها التي ترفض التحدّد والتوقّف عند نقطة أو منتهى. والكاتب كمنتج يسعى متمنطقاً حثيث جهوده لكي يخط على قرطاس زمنه وجوداً خَلقياً ، في تماهٍ مع ماهية الإبداع ، وانغماراً في هدير الرؤى المنبثقة من دواخل صنّاع التاريخ.

التاريخ يزرع أبواباً عدّة يواربها على المصاريع، ناداها هلمّي أيتها الحشود الملأى بورود الخلق الجميل، وتعالي يا جذوات عقول التائقين لفك طلاسم الوجود.. هيّا! فالخمائل تشرع أرائجَها وتبث الشذا وتشكِّل من الفضاء دنيا رحبةً. فمرحى لكم.. سكبتم نزعاتِ قلوبِكم وخلاصاتِ هنائِكم في بوتقةِ خدمة البشرية.

الداخل إلى عوالمَ نصوص المبدع يلتقي كثيراً بهويات انسانية مختلفة، ويحاور توجهات متفاوتة؛ وحتماً سيرسي سفينةَ اطِّلاعه على هويةٍ واحدة لإنسانٍ واحد يحمل همّاً واحداً وإنْ بدا في تشظٍّ تقرره المعاني.

المبدع يتوخّى نثرَ تجاربٍ، وعرضَ حالٍ، وترجمةَ فحوى، ومحاورةَ إبداعٍ، ومصاحبةَ هالاتٍ.

يدخل عوالمَ وحيوات. يتجوَّل في دروبٍ، وعطفاتٍ، وفضاءاتٍ، وهموم،ٍ وانكساراتٍ، ونجاحات، وتداعيات.

يرى محاولاتِ انتحارٍ، وتوالياتِ يأسٍ، وحصادَ سرورٍ، وأمطارَ رضا. كذلك يشاهد عدمَ قناعةٍ، ورفضَ حاٍل، وتصريحاً بالأسى، وبوحاً بالضياع، وتوقاً للانطلاق، ولَهفاً للحيازة ... ومع كل ذلك يدرك توجُّهَ الإنسانِ المجبول على خزينٍ معرفي وتدارس موضوعي بحكم البراعة المنبثقة من تراكم حيثيات الزمن نحو مرفأ الخلق الجميل، مستدلاً بالضوءِ الذي يومضُ له من الفنار الشاهق الذي لا يُترجم دعوتَه إلا المتميزون. أولئك الذين يستعينون بإرثٍ من التفاؤل، ويطردون حشودَ اليأس المتكاثفة عند حدودِ الضعف الذي يُعشعش في فجواتِ القلقِ وخشيةِ النكوص.

تهبنا التجاربُ قطوفَ الحِكم وتطلقُ لنا فراشات الهفهفة التي تدعونا إلى عدم الوقوف في منتصف المسافة بين القلاع القديمة والأبراج الحديثة. بين الإرث الركيم والنور العميم. إنّها تصرُّ على عدمِ الركونِ إلى تكبيرِ حجم الإخفاقِ وتهويل شَطَطِ خطأ جاءَ اثر محاولة. إنّها تقول على مرأى من مسامعنا:  انهضوا وتقدَّموا، وإنْ تعثرتم فانهضوا.. “ تُصاحبُ المتنبي في صراحتهِ، وترافقه في صولته.. تُجاري عزمَه على المغامرة، وتداري قرارَه على الولوغ في قلب العاصفة. فثمَّة المجدُ ينتظر، والخلودُ يؤميء أنْ تعالوا ولكن: “ ولا تحسبنَّ المجدَ  زقّاً وقينةً // فما المجدُ إلا السيفُ والفتكةُ البكرُ “.

 إنّها – التجارب -  تحثَّنا على الإصرار خَلقاً وابداعاً وتنامياً واحتراقاً في درب المواصلة المتعثر، الطويل! . وما المتوارون إلا أولئك الذين تهالكوا أمام بريق التحدّي فظنّوه  غيهباً سيدخلُهم دهاليز الضياع؛ لكنّهم ضاعوا حين لم يلجوا بوابات الصراع مع آلهته الظلامية. فصاروا مثلاً ... لقد صارعت “ فريدا كالو كالديرون “ كلَّ تابوات العَوَق الذي صاحبَها في مَجرى حياتها ابتداءً من الشلل الذي داهمها ولمّا تزل طفلةً في السادسة مُروراً بحادثة الباص الذي كان يقلّها وزميلاتها في المدرسة وهي في الثامنة عشرة ليتركها قعيدةً تعاقر الألمَ المُبرح الذي تسبَّب لها بجروح جسدية ونفسية؛ فراحت في احدى ممارسات التحدّي تمارس فنَّ الرسم بإصرارٍ إنساني عزمت صاحبتُه على مواجهةِ دفعات الإخفاقات الاجتماعية والصحية. فتجاوزت آلام ما يزيد على اثنتي عشر عمليةً جراحية لتقويم التشوّهات التي حدثت جرّاء  تحطّم الباص الذي كان يقلّها مثلما تجاوزت المحنةَ النفسية يوم اكتشافها خيانة زوجِها وهو يقيم علاقةً جنسية مع أختها؛ مثلما أيضاً تخطت كارثة اصابة أحد ساقيها بالغنغرينا ما تطلب بترها. فآلت بها كل هذه الويلات إلى قضاء بقية حياتها على كرسي متحرك يمدّها بعزيمةِ ألا تستسلم فنشطت في الرسم وخلق العوالم الفنية وتكريس صورتها عبر البورتريهات واللوحات التي كان لوجهِها المكسيكي الواضح والصريح وجوداً يعكس حالةً إنسانية تكرّس الإصرارَ على المواجهةِ وتقارع الاستسلام وتحاربه بسيوف الإبداع والخلق المجيد.

إنَّ حِرفةً الكتابةِ لدى المبدع تدخل حّيزَ الخلقِ الذي يصنع جزئياتٍ لغد المستقبل، وتجعل من الخالقِ اسماً مُبدِعاً بمثابةِ لبنة مهمّة فائقة من لبنات بناءِ الإرث الإنساني القويم. وما الإرثُ الذي تتباهى الإنسانيةُ به أمام تساؤلاتِ القادمين إلا نتاجات أولئك الخُلاًق . وهو –أي الإرث– الذي أيضاً يغطّي ويطغى على رداءةِ وسوءات أفعالِ بعض المارقين من الشريحةِ الإنسانية ممَّن يتركون اللطخاتِ العتيمةَ في فضاءِ فخرِ الإنسانية الرحيب.

عرض مقالات: