اخر الاخبار

كم هو الزمن الذي قطعناه منذ أول لقاء لنا بمظفر النوّاب، المدرس في متوسطة الفجر في الكاظمية؟ كم صورة يمكننا أن نلتقط ضمن إيقاع الزمن الطويل؟ وكم منحنا مظفر أعلى إستجابة إنسانية للتعبير عن حالة الإستثناء التي إمتلكها؟

ماذا يمكن للمعلم أن يعطي من الحكمة.. وما يمكن لنا أن نأخذ؟

كنا مراهقين بعنفوان المرحلة وإنفعالاتها، نحمل معنا توتراتنا وتأزمنا، نرصد العالم بعين الإندهاش والإلتذاذ، مظفر النواب يرغمك للإلتفات إليه، والإنتباه، لا لطريقته الخاصة في قاعة الدرس، ولا لشكله وأناقته المفرطة، بل لشيء أخر يفتقده المدرسون الآخرون، هو أنه كان يوقظ في حواسّنا الشوق للكتاب والكلمة، هو أسبق من غيره في الإستجابة للأفكار التي غزت رؤوسنا، أن يعيد توازننا، ويوقد فينا مسارج المعرفة.

لم أخطأ يوماً في أزقة محلة النوّاب، حين أجتاز حديقة الأمة صباح كل يوم مشياً على الأقدام صوب متوسطة الفجر، يالها من عطور وأيام لا تحزن ولا تشيخ، عجباً لحمام الكاظم وهو يضحك، وأناشيد الصباح تتردد، مع قدوم مدرس اللغة العربية مظفر النواب، يبدو كأنه الربيع في ثياب زهرة.

الشاب فارع الطول بملابسه الأنيقة، وعافية وجهه المسمرّة، وعطور حلاقته، شذاه باقٍ في الهواء مثل عطر عاشق، لا يستقر في مكان يتنقل بين الساحة وقاعات الدرس، يغمر الطلبة بطوفان من الأسئلة، فإذا إستطاب لأحد يروح يصغي له كأنه لا يعرف شيئاً.

في قاعة الدرس ألقى علينا الريل وحمد، كان قد نشرها في مجلة المثقف لأول مرة، عام 1961،ثم سمعنا ( صويحب من يموت)، يثير فينا الفضول بحوار غير متعادل، يستعيد مفردات لم نألفها، إبتكار مفردات جديدة، لم تكن متداولة في اللغة العامية، النواب متيقظ ومتحفز وهو في ذروة نشوة الخلق، وهو ما يميز المبدع، يقلّب المفردة على وجوهها، يعتصرها دلالياً، يمتص روحها، ويلقي قشرتها الحروفية(أواكح بيها جوع ضباع)، ليس هذا حسب، بل المهارة في التكرار، في إيقاعية لاهثة ضاجّة( ميلن لا تنگطن كحل فوگ الدم، ميلن جرح صويحب بعطابّة ما يلتم)..

كنا في في ذلك الزمن، نمزج اللبن بالشعر والماء بالأغاني، والليل بالصحوات والغفوات، كان درس النواب كرنفال آخر، طلاب من إنتماءات طبقية مختلفة، وفئات إجتماعية متباينة، أزياء مختلفة، مهما كانت الإختلافات، كنا نصغي معاً، نتنفس هواءً واحداً، بفضل مظفر كانت خياراتنا أوسع، ومدراكنا أشمل وأعمق، لقد حبا بعض تلامذته إهتمامه الخاص، وأخذ على عاتقه التبشير بمواهب جديدة، وبتشجيع منه، ثم أثبتت الأيام أن طلبته شغلوا مواقعهم في خارطة الأدب العراقي، أذكر زملائي وأصدقائي : أحمد خلف، حسين الهنداوي، رياض رمزي، حميد الخاقاني، نصر محمد راغب.

في الصف نشعر بألفة بالغة حين ينادي : طلاب! أغلقوا كتب النصوص والقواعد، ثم يبدأ الشعر والغناء، كأنه مئذنة موسيقية من صمت عريق سحيق، في ثنايا الصوت رنين تاريخي خفي مطمور، حتى كأن مظفر عاش كل العصور، فأطلّ علينا بجلاله ومهابته، بحياء التلاميذ نرقب شغفه بالجنوب، بمعاني الكلمات، في إنفعالاته وحركات يديه، وتلوّيه، وعرق جبينه، مناديله البيضاء لا تفارقه. لكن للأسف الشديد كان أحد المدرسين من إتجاه سياسي مختلف مع النواب، يحرّض التلاميذ الصغار، يستغل عواطفهم الساذجة للتشويش على محاضرة مظفر، بينما كان هو واحة تربوية حنون، نستظل بأشجارها تساقط علينا ثمراً وجمالاً، وفوقنا الهديل يغني.

كان المعلم عالم مسحور تختلط فيه براءة العصفور ببراءة الأغصان، براءة الماء والألوان والغيوم، بالكلمات والحوار

لا يترك النواب إثلاماً على جبينه الوضاء، لأن كل عطور التاريخ، وريحان النعناع، إجتمعت في صوته الحقيقي حين ينظر إلى ماوراء الأفق، مازلت أربط التشكيل بهندام مظفر المكوي بعناية، وأربطة عنقه الملونة، بقامته الفارعة، عن طريقه بلا شك تعرفنا على أسماء موسيقيين عالميين، كانت بالنسبة لنا مثل الألغاز، عرفنا معنى الأوبرا، وكتاب الروايات في العالم، وأشهر الرسامين، كان مع سعدي الحديثي مدرس الرسم في متوسطة الفجر يشكلان ثنائياً يبدأ بالتفاؤل والفرح، كان سعدي الآخر الوسيم، الطازج الوجه والزاهي، مثلاً لعذوبة الصوت وإمتدادته اللا متناهية، ما كانا يدريان أن الزمن سيذهب بهما معاً إلى سجن نقرة السلمان هذه المرّة،

حيث البلاد سلاسل جمر وغابات موت.

هناك ينتهي سهر النجوم حين ينطفيء لونها الأزرق، بفعل تغني القص بحنين الحبيبة العارم لحبيبها الغائب :

لون كل الگصب غنّه بحنيني لشوفتك، يا اسمر

يسلّ الگصب سل أصفر، واظن الماي يتمرمر

واظن حتى النجم يطفي زراگه، ولا بعد يسهر

واظن أكثر

مظفر النواب من صنف الشعراء الذين يحولون الأرز إلى نبيذ على حد وصف الكاتب حسين سرمك، إلى خمرة كونية، تجعل الحزين سعيداً في كل حال، لكنها عندما تفرط في همها الذاتي تجعل السعيد حزيناً في أقل الأحوال، لكن حتى فط أشد حالات الإفراط يكون هذا الحزن رائعاً وسط واحة من الفرح، والقصيدة لديه ليست عيداً كبيراً، كما قال أوكتافيو باث، حسب بل هي غبطة كونية.

لكن بعيداً عن حكايا النبيذ، كنا قد إستأنفنا، رياض رمزي وأنا لقاءتنا وحواراتنا من جديد، كانت المدرسة تأخذ مقاماً حميماً في تجاربنا الخاصة، كان إحساسنا بالألفة يكبر لكل ما هو رائع وأصيل، بحديث شعر مظفر قبل صدور ديوانه( للريل وحمد)، على متن حافلة، أو على عشب ساحة عدن، في تلك السهرات نرتل القصائد في السر، كما نخبئ منشوراً سرياً، يشاركنا الشاعر زهير الدجيلي، مطلق السراح بعد سنوات سجن مع النواب وسعدي، كنا نبحث عن زوايا نداوي فيها الجراح، على أجنحة وإبتهالات، نستعيد عذوبة محلة النواب وبساتين نخلها الأليفة. كان زهير يروي عطشنا بحكايات عن مظفر، بخيال وذائقة لم نألفها، وإحساس مرهف بقصيدة النواب. بإختصار شديد، كان مظفر بطل زماننا الثوري، الساحر

عرض مقالات: