اخر الاخبار

باب ما ذُكر فيه من الأخبار/ خبر الكلمة:

قال حدّثنا (النوتيُّ) عن أخبار الرأس ، الذي يُترك ما بين السموات، والدروب الموؤدة بضبابية المواقف، عن الوضوح ورؤيته، عن الذي تغنّى هناك بالقرب من القصص، عن أعتاب وعيه، وقلقه، ونفيه الجسدي، عن شوقه الروحيّ، أن ثمة ما يُتلى في شدة زخم الفراق، والحنين؛ لا يقربه من خط على الرمل مواقفه:

((... على النار أسبلت جفنيك حُلماً

بكى الله فيك َ بصمتٍ،

وتم الكتاب.

فدمعك كان ختاك النزولْ.

...

أنت يا ربُّ لا بُدَّ تغفر للكُفْرِ

إن كان حرّاً أبياً

وهيهات تغفر للمؤمنين العبيد ..

وأنت ضماني على ما أقول...))*

باب ما ذكر فيه من الرؤى/ خبرُ الصوفيّ:

للشعرِ ذاك التداخل الذي يجنح بالشعورِ إلى تجليات تقربه من الظمأ الروحي، لما هو من شأنه أن يجيبه –على الأقل- عن هيامات الأسئلة، وضنى التوقِ. فالشعر العربي له نصيب هائل من تلك التعريفات في هذا الخوض، والرؤى حيث “أن اللقاء الذي كان يتم بين صوت الشاعر، ورؤى الأسماع، لم يكن لقاء مشاركة في الحياة والعواطف فحسب؛... وإنما كان أيضاً ممارسة للحياة والوجود”1 :

(( ها أنا ثانية أهتزُ عِشقاً

لسماواتِكَ هل أنت تراني

أم تُرى أنت تجافيني

لكي يَخلصَ من شائبه الطين كياني

أنت تدري حينما الحالاتُ تشتدُّ

على الصوفيّ في الليلِ

ولا تخلو به ماذا يقول؟ ))*

فهذا الوجد الصوفيّ الذي كان يبثهُ في شعره، مستدعياً به أشواقه ،وبوحه، وحياته. وحتى محاوراته العقلية التي تدور به في فُلك استفهاماته، يطوعها حتى تلتئم فيها جروح اللقاءات المتأخرة، فتلك الأحزان المكتظة في خلجات بوحه كانت كلها رؤى، وهرطقات في وجه المتزمت بتعاريف الرؤى، وجعلها على مقاسات تُخرجها من أثوابها المرسومة على أجساد العقل، كتباريح وجدٍ مثقل باستدعاء أحزانه الخاصة:

(( يا ملك البرق الطائر في

أحزان الروح الأبدية

كيف أندس كزهرة رؤيا

في شطحة وجدٍ صوفيه!

يمسح عينيه بقلبي

في غفلة وجدٍ ليلية ...

ماذا أكتب؟

ماذا يوقظ فيَ؟

يا ممشى أيام الله بضحكة عينيك

ترنم للغة القرآن

فروحي عربية ))*

باب ما ذكر فيه من الرمز/ خبرُ الحب-المرأة:

لم يَزل يُعمِدُ شعره بخفايا بوحه التوّاق إلى أنسنة الأفكار الوحشي، والنَظمُ المتخندق في دروب الظلام، ونفي الآخر، فهو يُغرقه في تفاصيل المرأة، مبتعداً عن أهوال التشظي التي مزقت نفسه، وروحه في محاولات قراءة رسومات الواقع الملطخ بالألوان الحمر والسود! حيث “ يقع ذلك في باب الحبكة المركبة دون البسيطة، أي التي تنطوي على انقلاب الحال أو التبيّنُ، أو كلاهما”2 فنجد الحبكة تتركب بمزاجاتٍ يرخي رسن جموحها، من خلال تمهيد يُثري مشاهده التي سيصورها لاحقاً.

مزاجٌ أورده في إحدى مقدمات قصائده، من خلال توطئة نثرية، عمقها عمق شعريتها اللاحقة، وأمانيها المرجاة على أرصفة الفقد:

(( إذا خَمِرَت الروحُ بالعشقِ.. سَكرَ الجسدُ بالماء القراح.. وأنزاح معنى الحامة إلى معنى الوجود.. كُلٌّ حَسبَ طريقته في العشق يصلي.. ويَعتكر اللفظُ فيحجبُ الكثير من المعنى.. فلا بد لكي تُرى النجمة أن يكون هنالك ليلٌ .. أن تلازم الخلوة بمحبوبك لتلازم الخلوة بالناس.. وهنا مشكل آخر.. أيدلكَ المحبوب على الناس؟ أم يدلك الناس على المحبوب؟..))*

فتكوين الرمز، كان مفادات للمرأة والحب، فهو يُجسدُ اللقيا بما يقبض عليه من جمر الشعر، ورؤاه، ولغته. يغوصُ في تفاصيلٍ، هي على مرأى ومسمع الناس، لكنّه يخلقها بطريقته الحصرية – الحصرية جدا ً – التي لا يجاريه فيها إلا نفسه، وموقفه، وروحه، وشعره:

(( ... لم تُزَرِّر أيَّ شَيءٍ

عَرضَت فِتنَتَها

والناسُ ما زالوا على أرصفةِ الأمسِ

سُكارى مَيِّتينْ

إِيهِ يا بَحْرِّيَةَ الأثوابِ

أثوابُكِ تُعطي ضِعفَ ما عُريَكِ يُعطي

وأنا ضاعَفتُ عَينيَّ

وبعضُ النَّظرِ المُشتاقِ لمسٌ

ولقد يَهتفُ حتَّى الكُفرُ مَهزوماً أمامَ الحُسْنِ : سُبحانَكَ رَبَّ العالمينْ

قانعٌ مِنْ كُلِّ دُنيايَ بَحُبٍّ مِثلما يُفْطِرُ مَنْ صامَ

مَدى الدَّهرِ بتمراتِ كُنوزٍ مِنْ عِراقٍ و حَنينْ.))*

باب ما ذكر فيه من الوداع/التوطئة- النص:

الحمد للعراق ربُّ الكلمةِ، والشعرِ، والناس، وفوضى الناس، وكره الناس، وحب الناس.. كان استدعاءٌ شعرهُ، وغزيرٌ نثرهُ.. كَتَبَ فَعَرف ، ونُفيّ فَعُرِف.. سلاما ً له على كل شيء صُلب .. فللعراق درّهُ، كم للبواقي من مآقي، لسان حالها يردد في أزقة الكوفة، وبغداد، وطلول صاحبه البصريّ:

تعال الآن..

وعد إلى (الأسواق) التي تنبأت بحزنها .. بعيداً

عُد الآن..

وترنم على جدران المسمع، والحجر ،

فكلاهما (أرض عربية).

أُنبيك الآن:

أستاراً تُعقد على الضوء القديم!

أُنبيك الآن:

ما معنى الكلمة؟

فقل: أقرأ باسمها الذي عَرَف،

وحسبك من سمعها أولاً؟!! 

ـــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

*مقاطع مختارة من قصائد للشاعر مظفر النوّاب، كانت على التوالي (بين السموات ورأس الأمام الحسين، قافية الأقحوان، وتريات ليلية، ثلاث أمنيات على بوابة السنة الجديدة)

المصادر:

  1. تنظر اشعرية العربية/ أدونيس/ دار الآداب/ بيروت 1985/ ص29.

2. تنظر موسوعة المصطلح النقدي/إليزابيث ديل/ ترجمة دكتور عبد الواحد لؤلؤة/ دار الرشيد 1981/ص21  

عرض مقالات: