اخر الاخبار

رائحة الموت ليست شعرية، لأنّ الشعرَ إبنُ الحياة دائما، بوصفه القوة الخلاقة التي تملك طاقة الترميم، والخلق والتجاوز، وحين يرحل الشعراء فإن قصائدهم تظل شغوفة بفكرة الحياة، لذا نجد فكرة المكوث الشعري التي تحدث عنها هيدغر اكثر التصاقا بالقصيدة، بهوسها ورموزها وتمردها..

زهير بهنام بردى الشاعر الذي كان مسكونا بفكرة الحياة، لم يشأ المغادرة، إذ ترك قصيدته المشاكسة على الطاولة، او عند الشباك العائلي، اوعند الجسد السرياني الذي يعشق اساطيره البابلية والاشورية، واسحاره وعلائقه بالخلود والاسفار الرسالية..

الرحيل بوصفه الشعري قد يبدو انتقالا، إذ يبحث من خلاله الشاعر زهير بردى عن ارواح أخرى، تلك التي يشاطرها قلق الامكنة، وكشوفات مابعد الحياة، فيطلق لها اشعاره التي طالما التمست فكرة الخلود، والصعود الى معارج الالهة وهم يمارسون سحر الخلق، ليجد الشاعر نفسه وكأنه بروموثيوس الذي سرق النار ليظل العالم متوهجا عبر اللغة، وليظل الجسد الشعري هو القربان والترياق والمقدس.. علامةِ حبٍّ مقدّس

أمشي

حولي عيون سماء

وحماماتُ سلام

وضوءُ كائناتٍ تلوّح

أطلقُ أقواساً

من التراتيل

وأرشُّ الضوءَ من تجاعيد الهواء على الأرض

وبطقوسِ قربان يتكلّمُ فمي الطري

بيدي أغصان زيتون

وشمع مذهول

وعسل أيقونة يسيلُ

أمشي.. وأردّد

اوشعنا

وأستدير الى جهاتِ الارض الأربع

أغسلُ أقدامَ الضوء

بباقةِ ماء فصح

وأبقى أردّد

اوشعنا

اوشعنا..

 

رهان المشي هو ذاته الرهان على البحث عن الوجود، بوصفه الانطولوجي، حيث يرقب الشاعر عبر القداس العالم وهو يتطهّر، فالقربان والزيتون والشمع والعسل مكونات طقوسية تتجاوز فكرة المكان المسيحي لتبدو وكأنها المكان الانساني الذي يتوقه الشاعر بحثا عن الخلاص، إذ يكون المشي وجها آخر للرؤيا، والتماسا لما يشبه الحياة، فهو المشّاء الاشوري الذي تسكنه فكرة اسطورة الخلق البابلي، يعيش خصبها ولذائذها، مثلما يعيش قوتها في الذهاب الى العالم الآخر ليسترد عشتاره، تلك الغائبة، إذ تتحول القصيدة الى طاقة للسيرورة، وللخلق، والى تراتيل يمتزج فيها النشيد بالطقس، وكأنه يمارس من خلالها وجوده الآخر، الوجود الذي يقاوم الموت، اذ تكون القصيدة هي عشبه خلوده، وهي لعبته السحرية في ترميم العالم الذي يخربه المحاربون، اولئك الخارجون من الجحيم الى عالمه، عالم الحلم و” السرى” ولتبدو تلك التراتيل الكلدانية في عيد السعانين أكثر تمثيلا لهذه القوة الخلاقة التي يستدعيها، ف “اوشعنا” التي يرددها، هي روح الاحتفاء والاحتفال الذي يعيشه “ اهل بغديدا” لتأكيد مايستحقه الفرح السرمدي، الذي هو فرح الشاعر المتدفق عبر تكرار ندائه، بوصفه نداء الخلاص..

لا يعني هذا اهتمام زهير بهنام بردى بالرمز الديني، بل بما يتيحه من احالات، تقترب من شعرية الطقوس، ومن التوظيفات التي يكون فيها هذا الرمز، هو الباعث الطقوسي على استعارة تمثيلية لمواجهة الموت عبر الحياة/ الخصب/ الاستعادة، وبما يجعل القصيدة جزءا من الصوت الاحتفالي، حيث يتجلى عبرها الطقس بوصفه تطهيرا، ونزوعا الى التجوهر عند فكرة الخلق، تلك التي تحضر في اغلب قصائد زهير، حيث يقترح مايمكن تسميته بالحياة شعرا، وهي خيار يستكنه ماتحمله الطقوس الكلدانية من احتفاء بالفرح السرمدي...

عرض مقالات: