اخر الاخبار

المجموعة القصصية التي بين أدينا للقاص  عبد الله حرز البيضاني وقصص بليغة وبلاغتها جاءت من أدواتها ولغتها وتوظيفها لكل ما يزيد القص تماسكاً وجمالاً  من دقة في الوصف ورزانة في الطرح وعمق في الدلالة، ولا أجد لها إلا أن تثبت حضورها المتميز محققة توافقا رصينا وممكنات القاص التي هي ليست قليلة في أدبية القصة القصيرة، كونها استوفت  خصائص الفن القصصي وضوابطها،  اذ اننا نجد حدث ونهاية منطقية دون أن يعتمد القاص على ذلك الاطناب قصد ملء الأوراق فقط بما يجعل القص محافظا على الهوية الفنية له ضمن مكونات نصية وظواهر أسلوبية وبنيات داخلية بارزة تستمد أدبيتها من سلطتها على القارئ،  ففي القصة الاولى التي تحمل عنوان المجموعة القصصية نجد فيها خطاباً قصصياً موازياً ما بين دالتين تفرضان سلطتهما على النص وهما صوت الناي وامواج النهر من جهة بما يشكلان به تحالفا مع الشيخوخة والفتوة من جهة اخرى وهذا التحالف بدوره يحرك افق التلقي ويمهد للولوج إلى العوالم  المتخفية في تبئير مرجعيات الدلالة في ما وراء القص من احساس بالخيبة ونضوب الحيلة في التواصل مع الحياة ،  آخذا القاص بجريرة الزمن وما يحدثه من تغيير ، أن استخدام القاص للخواتم الزمكانية في قصه أخذت منحنيات عدة لها وقعها النصي المتعدد الابعاد وذلك ما نجده أيضا في قصة (وتستفيق اللحظات) التي يطرح فيها مماحكة زمكانية تبنتها المسافة من بغداد الى السليمانية لتجمع ما بين روائي يشعر بعتمة الخيال لديه لتنيره امرأة يتحدث إليها طوال الطريق فتتبدد شخصياته الوهمية التي تعيش في داخله وتتحول إلى تآلف جديد يلبسه ثوب الجدوى والاهتمام بدلا عن الجمود والرتابة .

  إن قصص البيضاني عكست معانٍ إنسانية جمة، حرص فيها على خلق ذلك التأثير المائز في نفوس متلقي نصوصه بما يجعله يتفاعل مع ما يكتبه ذلك أن القصة تنم عن ظواهر وقضايا اجتماعية كان فيها قريبا جدا من مجتمعه بكتابتها، داعما لقضايا الإنسان والإنسانية جمعاء ورداً قاسيا على الجور والقمع وكبح الحريات الفردية،  ومن ذلك قصة (سحابة في منام) التي يقارب فيها ما بين الفصل العشائري والفتاة الضحية باستخدام اسلوب القهر الذكوري للانثى ، القهر بمستواه العنيف وبمستواه الناعم الذي يصيبها بالاحباط من دون القدرة على مواجهته.

ويفرز القاص قصصه في قسمين، الأول يتناول المشاعر والأحاسيس المنقوصة وغير المكتملة  في نطاق الأسرة.  والثاني يتناول قضايا اجتماعية عامة، لتوحي بأن المجتمع بما فيه من فساد سياسي وانحلال أخلاقي، لا يمكن أن ينتج علاقات صحية أو متوازنة في إطار الأسر ففي القصة الاخيرة من المجموعة التي عنوانها (الاجساد المتدافعة) يعالج القاص فكرة العوز المادي الذي يجعل اصغر فرد في العائلة يسرق ليتعشى اخوته لكنه استخدم المغزى العاطفي والدرامي السريع مع لهاث يجعلنا نتعاطف مع الطفل ونتناسى سرقته وهذا ما نراه في قصة (خلف شباك المرمى) ايضا؛ ذلك ان القاص لا ينفك يجوب عالمنا الغريب القاسي ليقتنص حكاياه وهي في مرمى الطفولة هنا وتحديدا الطفل (الفايخ) بحسب وصف الاطفال له نتيجة لبسه المختلف وكرته المطاطية بدلا من كراتهم التي صنعت من خرق  ليفاجئنا القاص بأن أمه عاملة خادمة في بيوت الميسورين،  وبما إن القارئ يميل إلى العيش مع الشخصيات والأحداث وربما يتقمصها ايضاً عمل القاص على استكناه الذاكرة في قصة ( امرأة تحت اغصان شابة) مستعينا ببطلها عبد العظيم الغانمي الذي تعيده الذكريات لمدينة العمارة قبل اربعة عقود إثر التقائه بجار له في المتنبي ليتذكر حبه الاول، ومن ثم تداعيات مدينة بسكانها وطبائعها وتكاد تكون القصة الأكثر أهمية في المجموعة وربما الوحيدة التي يتطرق فيها القاص الى طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة ومديات الجنس رغم الحدود الضيقة، وهو هنا خاطب المتلقي بكمٍ لا بأس به من التفصيلات والكثير من الايحاءات ليصل بخياله إلى الحقيقة التي تكتنف علاقات اجتماعية مهترئة تمثلت بعلاقة بطل القص الغانمي مع جارته ام وليد وذلك  باستثمار القاص تقنية تحول  اللغة لديه من اللغة المباشرة المفصلة على قدر المعنى لتصبح لغة محلقة بالمجاز الذي يتجاوز مجاز اللغة إلى مجاز التصوير السردي.

 لقد عودنا كتاب العقود السابقة مثل: غائب طعمة فرمان و فؤاد التكرلي وعبد الرحمن مجيد الربيعي وفاضل العزاوي ولطفية الدليمي على إمتصاص أحداث الشارع  بكل متناقضاته وهي كثيرة وسريعة التحول ولهذا أسبابه التي تجعل القاص يمسك بالوتيرة الهادئة كي يتقبل المتلقي احتدامها  وهذا ما عمل عليه البيضاني في قصة  ( الحرية تشف من الجهة الاخرى) التي يصف فيها صراعا نفسيا لبطلها وهو جالس في قاطرة قطار ويرى قبالته من عذبه داخل السجن الذي دخله ظلما، وللتمكن من وصف الاختلاجات النفسية العميقة لجأ فيها القاص  الى لغةٍ محكمة تتماشى مع تفاصيله السردية الصغيرة والكبيرة ، إذ وظف الكاتب لغته البلاغية العالية لتخدم الفكرة التي يحاول التطرق إليها وهي القهر السياسي والتي نجح فيها بأن يشعرنا أن المقطورة تحولت إلى سجن تأن فيه ذكرى موجعة حتى لكأننا نتمنى انعتاقه من ذلك القطار  بعد أن تحول إلى سجن يتخلله الأسر بأشكاله المتعددة  ذلك أن الزمن والرغبة في الحرية يتحولان إلى رغبة في الانعتاق والتمرد ليس على المكان ومن فيه فقط ،  بل على وجود الانسان نفسه. ولأن القصص محملة بطاقات نقية وعميقة من قصة لاخرى أخذنا القاص عبر اجتهاداته في فضح العمى الساسي رابطا اياه باحداث الشارع كما قلنا سابقا  فهو في قصة ( عندما يكبو الجواد) ابتكر فنيته العالية من فرادة الفكرة وثرائها التي صنع من خلالها تحول بائع العتيق في الشارع الى فراش لمسؤول البنك الذي حاول سرقته بعد سقوط النظام لولا موت حصانه في مفارقة لا تخلو من سخرية سوداء يتجلى فيها كل ماهو غير منطقي ومشوه ليكون واقعا مفروضا.

لم تخل قصص المجموعة من الفنطازيا وكانت من نصيب قصة ( الطائر الابيض) التي يفتتحها القاص واصفا المكان وهو الهور البهي بمائه الازرق مادّا جذور قصه نحو اسطورة (كنز حفيظ) التي انتشرت في الهور منذ ازمان ليست قليلة لتنبئ عن مكان يحرسه الجن ولا يصله الصيادون خوفا منهم الا صيادا كان يبحث عن الجديد وقد وجده في طائر ابيض كان يغوص عميقا في منطقة معينة من الهور ليدل الصياد على اماكن تواجد السمك ليصطادها، وبما إن الفنطازيا تتناول الواقع الحياتي عبر رؤية غير مألوفة فقد قدمها القاص ضمن معالجة ابداعية خارجة عما يتفق معه الواقع المعيش وذلك بادراج  العناصر الخيالية داخل إطار متماسك ذاتيا متناسقا من الداخل مع البيئة بما يمكننا تحديد ذلك الخيال ومكامن اختبائه  متجاوزين ما يتسرب إلى اذهاننا من انه  يبدو إطارا لعالم حقيقي رسمته الشخصية باستخدام عناصرها الفنية التي تقدمها كاملة لصناعة عالم خيالي .  

عرض مقالات: