اخر الاخبار

يُعد الفن وسيلة للأرتقاء بالعالم, والتعبير عن رغبة في التمّرس بالتجارب التي يمر بها الفنان وهو بديل الحياة, بل أيضاً وسيلة لأيجاد التوازن بين الانسان وعالمهُ الذي يعيش فيه. كما ان الفن ضرورة في المستقبل, كما كان ضرورة في الماضي. والفن يمكن ان يختفي وان الواقع سوف يحل بالتدريج محل الفن, اذ  لم يكن الفن في جوهره إلا تعويضاً عن انعدام التوازن في الواقع الراهن, ولذلك قال موندر يال جملته الشهيرة: ( ان الفن سيختفي عندما تصل الحياة الى درجة أعلى من التوازن, فالفن بديل الحياة, بل وايضاً وسيلة لأيجاد التوازن بين الانسان والعالم الذي يعيش فيه. ولكن الحقيقة تشهد ان التوازن الدائم بين الانسان وعالمه امر مستبعد حتى في ارقى الاشكال الاجتماعية)، من وجهة نظر موندر يال. كما أن الفن بالمعنى العام، جملة من القواعد المتبعة لتحصيل غاية معينة، جمالاً كانت او خيراً أو منفعة، فاذا كانت هذه الغاية تحقق الجمال، سمي الفن بالفن الجميل، واذا كانت تحقق الخير، سمي الفن بفن الاخلاق، واذا كانت تحقق المنفعة، سمي الفن بالصنعة. والفن هو القدرة على اقتطاع جزئية دلالية من ممتد موسوعي، وهو ما يعني الفصل والعزل من اجل بناء عالم (اصطناعي) لا تحكمهُ نمطية الواقع وتشعباته، بل يندرج ضمن امكانات التدخل بين عوالم التخييل ومتطلبات الواقع. ويُعد الفن تعبير عميق عما هو مخزون داخل القلوب البشرية من انفعالات واحاسيس ذات رسالة موجهه من قبل الفنان الى الجماهير عبر العصور والازمنة، والفن هو الطريق الوحيد لمقاومة الموت.. كما قال (اندريه مالرو). وتُعد رسالة الفنان جواد سليم استمراراً لما سبقه من رسالات يؤكدها او يجددها كونه يعيش مع رُوحها. لكن ببصمته واسلوبه الفني، بعيداً عن تكرار تجارب الاخرين، فمن يتبع أثر الاخرين لا يمكن ان يكون مبدعاً. فقد امتازت رسوماته بواقعية سحرية ( (Magical realismوتعبيرية عالية وفي جميع التحولات التي مر بها في حياته ما بين ولاده في انقرة وتنقله الى الموصل  وبعدها الى بغداد ومن ثم الى بلدان متعددة من اوربا، كانت جميعها محطات مهمة في مساره الفني. وكذلك في التوجه نحو الحداثة، فكان دائم البحث والتجريب عن أداء فني يميزهُ عن اقرانه الفنانيين.. ومثلما صنع الألم العبقري آلبرت أنشتاين، كذلك جواد سليم.. لم يكُن مجّرد حالم، فكلاهما كانا ينظران الى النجوم.  ويجب الاشارة الى (رينيه ويـج)، وذلك فيما يتـَّصل بضرورة الفن، وعلاقته بالإنسان، تلك التي يذكر فيها أن: (الفن ليس لهواً أو مجرد ترف، مهما يكن هذا الترف رفيعاً، بل الفن ضرورة ملحة من ضرورات النفس الإنسانية في حوارها الشاق المستمر مع الكون المحيط بها. فإذا صح القول ألا فن بلا إنسان، فينبغي القول ألاّ إنسان بلا فن)..  أذن الفـــن ضرورة، ومن الجدير التأكيد أولاً أن أي إنسان في الوجود لا يمكنه التحرر ممّا من ميوله وغرائزه ووحاجاته، فهي جزء أصيل في تكوينه الفطري. فالإنسان بحاجة للتعبير عن ذاته، وبحاجة إلى الجمال ايضا. وحينما نتناول الفن بوصفه منتجاً انسانياً وهو في الحقيقة مرآة تعكس صورة المجتمع الذي ولد فيه. وكما قال اوسكار وايلد: (من خلال الفن والفن وحدهُ، نحمي ذواتنا من أخطار الحياة الموحشة الحقيقية). فحين ننقب في الحفريات للبدايات الاولى لظهور بوادر الفن في العراق لابد من استعراض اهم العوامل التي دعت لظهوره على وفق الحيثيات التي عصفت بالبلاد والقت بظلالها وأنعكاساتها على مراحل متنوعة من الفن التشكيلي.. وتسجيل وتوثيق هذا التأريخ، سياسياً أم أجتماعياً. فقد تبلورت حركة الفن التشكيلي العراقي عبر مراحل زمنية طويلة وأفرزت العديد من التجارب والاتجاهات الفنية للمدارس الفنية العالمية، ويعود الفضل فيها.. الى المغامرات الشخصية الاولى التي أتسمت بالارادة الفكرية، فالنحت على العكس من فن الرسم الحديث في العراق فقد نجد لها اسلافاً يتصلون بأوائل القرن الماضي أو بنهاية القرن الذي يسبقه، ذلك أننا لا نستطيع ان نكشف اسلافاً لحركة النحت المعاصر والتي يفترض ان تكون مرافقة لحركة الرسم أو تشكيل امتداداً طبيعياً لها، بل تواجهنا حقيقة تفيد بأن تاريخ النحت العراقي المعاصر لا يعود الى ابعد من سنوات الثلاثينيات وبالتحديد ان هذا التأريخ يبدأ مع انجاز جواد سليم لجدارية (نصب الحرية) في نهاية الخمسينيات وبتأثيرات النحت الجداري البارز الاشوري. وهو تعبير كاف عن فحوى النص الذي يعبر بقوة عن مدى الانتماء الحقيقي لتاريخ بلاد ما بين النهرين واللقى الاثرية وتركة فنية عظيمة قاومت جميع المتغيرات لتؤثر بأصدائها وتردداتها في المشهد الفني الحديث والمعاصر.. وفق منظومة البحث عن الذات وتجسيد الهوية الفنية الوطنية.. وتأثير الحروب والثورات على المنجز الفني والاستدلال على محركات الادراك المعرفي وانعكاسها في معرفة الخطاب البصري الجمالي.

فالحروب ملازمة لكل تفاصيل حياتنا، منذ أنتهاء الحرب العالمية الثانية والتي آثرت بشكل مباشر على مسيرة الفنانين العراقيين الدارسين في اوربا، مما اجبرتهم على العودة الى العراق، ومنهم جواد سليم وفائق حسن.. وانقلابات سياسية حصلت.. منها انتهاء هيمنة الاستعمار البريطاني ومن ثم الحكم الملكي وقيام الجمهورية.. ذلك ان العراق كان يعيش في دوامة الحرب، وفي نهاية كل حرب دائما تُعلن عن بداية لحرب جديدة. وفي كل مرة يُعلن الانتصار ويفقد السَلام. وتكاد المصادر التي تتحدث عن تاريخ الحركة التشكيلية تخلو من اي اشارة الى شخصية مهمة في دورها الريادي على صعيد (النحت)، مثلما نستطيع ان نتحدث عن تجربة عبدالقادر الرسام، ودوره في حركة (الرسم)، مع اننا قد نختلف بشأن اهمية هذا الدور او طبيعته، ولكننا لن نختلف على الاسبقية التأريخية له. فالنحت المعاصر بدأ في العراق مع انجاز بعض النحاتين الذين ذكروا في كتابات نقدية مختلفة ولم يتم توثيق اعمالهم النحتية ومنهم من درسّوا الفنان الرائد (فائق حسن)، وهو الاستاذ (محمد خضير) وثمة نحات اخر هو (فتحي صفوة)، اذ يقول المهندس المعماري (رفعة الجادرجي). ويعتبر (فتحي صفوت) اول نحات في العراق في تاريخ فن التشكيل العراقي المعاصر، وقد قام باعمال نحتية عديدة. فلم يتبق من اعمالهم ما هو جدير بذكره او وصفه بسبب غياب الثقافة التوثيقية وثقافة الاحصاء والارشفة وقاعدة البيانات، في تلك الفترة التي كانت فيها منحوتات هؤلاء النحاتين الأوائل، وكذلك منهم النحات (احمد الصفار) والعديد من التجارب النحتية. لقد انجذب جواد سليم في رسومه ومنحوتاته التي امتازت بالحداثة والمعاصرة عن طريق رمزية تلك الاشكال الحيوانية. كون الخيول العربية امتلكت صفة الاصالة والشرقية في الرسوم العراقية، مثلما كان جواد سليم قد نحت (الجواد) في مستهل حكايته النحتية وهي توثق الثورة..(نصب الحرية)،  في بداية حكاية هذا النصب الخالد والذي يعد اليوم الذاكرة الفنية والوطنية لمدينة بغداد. وكذلك ظهرت الحمامة في نصب الحرية، في منحوتة (المرأة -الخصوبة)، على كتفها حمامة.  وفي فترة الخمسينيات أو بما يعرف بمرحلة (البغداديات) التي مثلت ذروة اسلوبه المميز في الرسم مشكلا حالة من التواصل مع اعمال (الواسطي) في منمنماته عن المقامات. لكن جواد رسم منمنماته بطريقته البغدادية المميزة وكما في لوحته (فتاة وحمامة) فقد انقسمت الذات ما بين الفتاة والحمامة وحوار صامت بينهما قد دار عن الحرية وظهرت نافذة مغلقة في اللوحة. كما ظهرت الحمامة في لوحة اخرى رسمها عام (1954)، وحملت عنوان (ثلاثة نساء). كما ظهر الديك في لوحته الشهيرة، الخياطة وهي عبارة عن امرأة تحمل ماكنة للخياطة على رأسها، فقد جسد الفنان المرأة ملتفة بسوادها وهي تحمل فوق راسها ماكنة للخياطة ومحتضنة على صدرها ديكاً يبدو هادئاً، حملت اللوحة عدة دلالات تعبيرية منها نظرة المرأة وفيها من العوز والفاقه الشيء الكثير وربما كانت تروم بيع الديك، لتصليح ماكنة الخياطة، لكن احتضانها للديك على صدرها اعطى قيمة اعتبارية له كرمز للفحولة واعتزازها به. فقد بانت الحاجة والفاقة، من خلال ثقل الماكنة على راسها وهي تبحث عن الرزق، وهنا يسقط جواد سليم شيء من ذاته في التعاطف مع مشهد المرأة. وهذه المشاهد كانت متوفرة في الحياة الاجتماعية اليومية، وهذا هو دليل التفريق ما بين الرسام والفنان. فمن يرسم بمحاكات ما يراه امامه، هو رسام ينقل ويحاكي الاشكال والاشياء بمهارة حرفية، والثاني يعتمد الخيال والخزين المعرفي للذاكرة اليومية من مشاهدات للواقع والتعبير عنه باسلوبيته الفنية الخاصة. تلك الاعمال الفنية التي تكونت بثبات، مغمورة بالخبرة الذاتية المُدربّة على اكتشاف ما هو حيوي على وفق الأصالة في فن التشكيل العراقي. ومثلما كان “نصب الحرية”، مأثرة حياة جواد سليم، فقد كان في الوقت نفسه مأثرة موته. وكان أيضاً سباقاً في كل شيء.. حتى في رحيله المبكر.. فالدنيا شجرة، ثمارها للطيّب وورقها للجمال. جواد سليم رغم غيابه؛ ترك بصمة فنية حاضرة في جميع العصور واثراً خالداً. فمن الطبيعي أن تُشاهد تزاحم الفراشاة على ضوء الشموع .. وتزاحم النحل على الورود.. وتزاحم الحَمامات على جدارية “نصب الحرية”، الذي حقق فيها جواد سليم، الذات والهوية الفنية العراقية وكما في مجمل أعماله المعاصرة الحداثوية.. فأحداث الماضي أصبحت تأريخاً ورحلت، وما يحفل به الحاضر.. مُهم. لكن المستقبل من كل ما مر بنا هو.. الأهم.  إذ يوجد في النهر ما لا تَجده في البحر.. وليل الشتاء طويل وبارد لمن لا يملك ذكريات... دافئة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*باحث وفنان تشكيلي عراقي

عرض مقالات: