اخر الاخبار

المثاقفة في الفن التشكيلي تقود الى التشخيصية، وانشاء المشهد يفتح تفاصيل عديدة للتأويل ،ولاينقذ الفنان الا المقدرة والتمكن من الدرس الاكاديمي ،وهذا الدرس يقدمه محمود فهمي ببساطة متناهية ،مما يجعل البصر يتمتع بالنتائج دون الانشغال  بالحرفية العالية ،ومجمل لوحات فهمي تشير الى الحفر في الانشاء وتوزيع المفردات ،بعناية فائقة والاشارة الى اكثر من اتجاه ،منه التاريخي البحت مثل الطائرات الصغيرة مع لوحة مس بل ،وبالمناسبة فان هذه اللوحة من اكثر اللوحات وضوحا لاشتغال الفنان ،لأنها مليئة بالرموز ومكتظة بالمرئيات ،الكاميرا القديمة ،دفتر الملاحظات المحبرة الشاي العراقي الجنود البريطانيين ،الاريكة الزرقاء،الماذن الزرق ،وقبعة المس بل الواقية من الشمس.

في احدى المقابلات الصحفية يكشف محمود فهمي عن تعاطفه للهروب نحو المستقبل، للتخلص من سواد الماضي وهو الجندي المكلف، الراجع من حرب الكويت مشيا على الاقدام، ترى كم من مشهد حزين وقاسي خيم على عين الفنان وسكن في ثنايا ذاكرته ولكنه يلفظه خارجا بالألوان.

اننا إزاء فيوضات لونية، وانشاءات متراكبة، تشير الى تكوين الفنان، الحالم وهو يبادل الخسارات، بأحلام لونية لا تمت بصلة، الى كل ما مر به الفنان محمود فهمي، من حرب الخليج والرجوع وسط الخراب الى البلاد، ومن ثم الهجرة القسرية التي تعثرت بدروب الغربة كثيرا، من عمان بداية التعرف على ارض جديدة غير بلاده العراق وروسيا واصول الفن الواقعي شديد الحرفة والتضخيم الجسدي للبشر، والنرويج مدرسا والامارات لينغمس في عالم الطفولة منتجنا ثرا وكندا اخيرا.

كل ما مر به الفنان من ويلات، حوله الى عالم اخر فيه امكانات النسيان أكبر من التذكر، لان البديل أصبح هو المتصدر في المشهد، فبدلا من مشاهد الحروب، هناك سطوح ملونة، وبدل الفقدان نساء ناضجات، ينضحن بالشوق الشرقي والامتلاء الجسدي وبدلا من مشاهد الخوف، من سلطة كاتمة للأنفاس، هناك انشاءات تاريخية، فيها المزاج يتسيد في مرأى اللوحة، حيث الطائرات صغيرة، بينما الكائنات الانسانية كبيرة وضخمة المعالم.

فاذا كان الناقد والفنان عاصم عبد الامير يسرد لنا واقعة تهديد عصابة وجهت طلقة بوجه النحات الكبير محمد غني حكمت ،نجا منها بالصدفة ،وحين اشتكى للشرطة ،قال له الضابط ،بما انك رسام ،ارسم ملامح الذي اطلق الرصاصة بوجهك ، فرسم له دائرة وسطها نقطة فضحك الضابط وقال ما هذا، فاجاب انا لم ار الى الطلقة،اما محمود فهمي فهو اشتغل بما نسميه المحو التام لمشهد القتل والتكتم المر، ان “التكوين” الفني النفسي الحاسم والذي لا يقبل التراجع، فهو خلق عالم اخر ،متخيل وانتقائي ضمن تطبيقات تسلسلت في مراحل متعددة يقلبها المزاج حتى غدت رسومه مفارش، ووجوه وسائد، ومتكآت ، واغلفة كتب ، اخذت بلب الذين لم يغادروا ومكثوا في البلاد ،والذين عاشوا مرارة الغربة ، فاعتاشوا على فيروزاته، وخضرة حدائقه ، واستذكاراته التاريخية التي مزجت العصافير ،بدلا من التيجان ،والتمر بديلا للاكسسوارت على راس “بنت المعيدي” ، هنا الذاكرة الريفية للفنان تبرز كواحدة من اسس تكوينه الخاص،الى رموز كثيرة سناتي عليها لاحقا،في التطبيقات الفنية لرسوماته ،عبر مراحله الفنية المتنوعة.

1- المثاقفة لونا واشارات

يجنح الفنان محمود فهمي ،في مثاقفته ،وتواصله المعرفي ،الى طرح مفهوم مغاير ،لغوصه في  تفاصيل مرحلة المرأة والسطوح وحدائق البيوت ،وهذا المفهوم يتجلى بسطوع في لوحته عن الشاعر معروف الرصافي ،وهو يصوره متكأً على عمود رخامي ،مجللا بالألوان البهيجة تصل ذروتها ،الى الاحمر في الخدود والانف ، قريبا من سيرك للألوان ،يتجلى في اخضر الكف ،وما يحيط بالشاعر من خربشات طفولية ،وانسيابية في الالوان،هنا الفنان ،ينقل الشاعر من معركه الشعرية، وطروحاته ومعاركه الفكريةالجريئة ،الى واحة من الاسترخاء الملون،والنظرة الحالمة ،هنا الفنان يكافئ الشاعر بحلم شاعري هادئ، عكس صرامة تمثال الشاعر وسط ساحة الرصافي في بغداد -التمثال للفنان اسماعيل فتاخ الترك- وبذلك فان فهمي يفصح عن معرفة فنية قصدية ،تجعل اصدقاء قراءته الادبية الى حالمين معه ،متجاوزين الصرامة ،والتذمر ، والاسف ،الى العيش في حلم متخيل ملئ بالألوان البهيجة والصارخة احيانا ،يشوبها الكثير من المزج اللوني الطفولي.

2- لوحة بنت المعيدي

اتخذت لوحة “بنت المعيدي” تاريخا فلكلوريا راسخا في ذاكرة الريف العراقي، حيث كانت توضع صورتها على الخزانات الخشبية التي ترصف فوقها الاغطية والمفارش، وكانت تسمى شعبيا-النضيدة-وكانت شرطا من شروط اثاث العرس، وطقوس الزفاف فبدونها لايتم الفرح والسرور!!

اما بنت المعيدي الحالمة عند محمود فهمي، فهي متوجة في الإطار الابيض المحيط بالصورة بالشعار الملكي القديم، وعلى راسها تقف البلابل تتغازل، بلفتات متلهفة ويتوج شعر بنت المعيدي، شريطان من التمر الناضج، وتزين صدرها الليرة التركية الذهبية وعيناها ترنو لمنظر جانبي بعيد وغامض، كل ذلك المشهد المتقدم في صدر الصورة، تقع خلفه مشاهد غروب او حتى غبش لنخيل وزوارق زرقاء ونهر هادئ، وطائرة صغيرة، توحي بغريب قادم او حرب وشيكة وهذا واحد من تحولات واقعية سنشهد توسعها في لوحة مس بل ،الاكثر وضوحا في التحول 

3- لوحة مس بل

لوحة “مس بل” لوحة اللوحات، او مشهد القصد الفني الاوسع ،بتأليف لوني محتدم ومزحوم بالموجدات ، تجلس مس بل ، البريطانية الاكثر شهرة وغموضا يسار اللوحة على اريكة زرقاء ،وقربها كاميرا تصوير ،وحقيبة معدات ،ودواة حبر ،وكتاب بغلاف اسود وابيض ،وقدح شاي ،رشفت منه القليل ،وبيدها اليمنى قلم حبر مذهب ،ودفتر لم تمسسه خططها بعد،فهو يفصح عن بياض بكر،ومن الواضح للعيان ،ان الحلم -حلم الفنان الدائم- يشملها بمسحة  جمال واضحة ، قد لا تشبه الواقع الجمالي للشخصية ،وخلف مس بل يبدو المشهد مزحوما ،بالجنود الهنود والبريطانيين والعلم البريطاني ومآذن الجوامع ،وكل اغطية الراس المختلفة،من قبعة مس بل الصيفية ،الى خوذ الجنود واغطية راس الهنود بالعمامة ،والعقال العربي.

والطربوش،وعصابة الراس الشعبية وامرأة وحيدة صغيرة الحجم بعباءة سوداء ،وفي المشهد الابعد ،طائرة ،وباخرة بإيحاء عسكري في مياه النهر ،والجو بغيومه البيض ،ازرق صاف ،وكأنها لقطة شاملة للذكرى.٠٠ذكرى كل شئ ،وعلى الرغم من مشهد لا تبتعد الحرب عنه،الا انه حالم بالوان زاهية صافية وساكنة وليست هناك شخصية بمواجهة شخصيةاخرى،مس بل تنظر الى الامام،والجنود ينظرون الى الارض ،وشخصيات في البعد ،ينظرون عكس اتجاه اللوحة ،ماعدا جندي واحد ،ينظر  بابتسامة هادئة وكأنه ينظرالى الكاميرا في لحظة توثيق ،انها بحق لوحة توثيقية ،راسخة المعنى ،واضحة القصد ،بأنشائها العالي في حينه التاريخي مع مسحة حلم الفنان محمود فهمي .

4- لوحة الموسيقي صالح وداوود الكويتي

كل ما في  لوحة صالح وداوود الكويتي ،الموسيقيان البارعان ،اللذين هجرا قسرا الى اسرائيل ،يلبسان ،بدلتين بلون الطين -لون الريف المترسب في ذاكرة الفنان-وبسدارة عثمانية ،-دلالة الحقبة المعاشة- وبالة عود وكمان ،باوتار غير واضحة الملامح في اللوحة،وهذه اللوحة الوحيدة من مجموعة الفنان ،تحمل نظرة الاسف والنظر الى الوراء ،حيث تحمل حلم العودة ووردة العنق السوداء ،وباكف عاطلة ،لا تمس وترا ،او توحي بلحظة  عزف ،انما هناك لحظة توقف واستعداد لرحيل مر ،ان لوحة صالح وداوود الكويتي ،توثق لمرحلة فقدان وانفراط زمن قيض له ان يتهشم وتتوقف موسيقاه ،التي اسست الذائقة العراقية.

هذه اللوحة تحيلنا الى لوحة اخرى، فيها وضوح أكثر لصالح مع فتاته، وهما يستريحان عند نهر، قد يكون دجلة او الفرات، لا فرق وكانهما طائران على بساط ريح من الماء وتشترك اللوحة مع السابقة بان الكف لا تعزف، هي تمسك بالكمان بينما القوس بعيد في الكف الاخرى النائمة تحت مطربته او حبيبته بثوبها الاحمر.

5- لوحة المرأة الممتلئة

تشترك لوحات المرأة الممتلئة وهي تستقر على السطح البغدادي القديم، او وهي تطير للامساك بالديك رمز الذكورة ،او تمتطي الدعسوقة ،وهي بكامل انوثتها المكشوفة او تأكل ثمار الرقي الحمراء ،تشترك بالوحدة وعدم وجود الشريك ،هناك انوثة تم التلصص عليها وهي في كامل طغيانها الانثوي حيث يغيب الاتصال ، او اللقاء ، حتى ان الموجودات المكانية ،تبدو بلا ملامح واقعية، تحمل سمات اشارية لأمكنة تراثية عتيقة ،والعناية الفائقة تتركز على الجسد الانثوي في حجمه الاسطوري ،وكأن اللوحة مستله من حلم تخيلي ،لاشتهاء يجسد حجم القطيعة ،بين المبصر ،وبين الحيوات الطافحة بالانوثة٠

6- انوثة الحدائق العتيقة

ثمة لوحات تقترب أكثر، لواقع هادئ، يتشكل انشاؤه، لنساء في حدائق تحفل بالزرقة والامان في جو مفتوح، وهناك كتمان للمشاعر، الا بعض التفاصيل التي تشير للامتلاء، والحرية المفرطة، ولكن ايضا، دون شريك هناك كاميرا خفية، لاخر موجود في الذاكرة وفي ثنايا الاشتهاء المشترك ولكنه لا يتحقق، وهذه اللوحات لا تخلو من التأثيث التراثي للبيوت والحنفية في الحديقة وموديلات السيارات القديمة.

7- لوحة لا تخبري احدا

تنفرد هذه اللوحة، بذائقة لونية منفردة وانشاء تركيبي مختلف فهي بلا خلفية، وهناك تشكيل طفولي في تكوين الجسد الانثوي، يقترب من رسوم الاطفال، ومبني على حكاية صوتية، (لا تخبري احدا) بالاستناد الى مقولة بجذور شعبية عن تداول الاسرار وتشترك معها لوحة خوف، في مزج الوانها، على الرغم من ان موضوعها يشترك مع المرأة الممتلئة، الا انها تقف في جانب مغاير في الانشاء والمزج بين المرأة النحيفة الخائفة، امام ديكها الماثل في الجانب الاخر من اللوحة، في ضبابية لونية شفيفة.

ان العراق في لوحات الفنان محمود فهمي، لوحة مزينة بالحلم والهدوء والنساء، متوجة بألوان الزرقة والخضرة، والالوان النظيفة التي تخلق، متابعا، يتعلم درسا في الذائقة، عبر تاريخ الانسان العراقي في حقبة القرن العشرين الماضي٠ونحن نملك الان جزءا من تجربته القابلة للتنوع، لان تركيبة الفنان التي تنزع الى التحول من حقبة الى اخرى، دون ان تقف في مرحلة واحدة، حتى وان حقق عبرها الانتشار الجماهيري، والاهتمام النقدي، وهذه واحدة من المزايا التي تجعل الجمهور أكثر لهفة لما يعرضه الفنان مستقبلا.

عرض مقالات: