اخر الاخبار

حين شبّ السيّاب وأخذ يتطلّع إلى الشعر كان جوٌّ من الرومانسيّة يشيع في الأدب العربيّ؛ شعره ونثره. بل إنّ النزوع الرومانسيّ كان عنوان التجديد وصفحته الأولى. وأوّل أمارات الرومانسيّة رجوع الأديب إلى نفسه، والوقوف على ما يتخلّجه من مشاعر؛ في الحبّ، والأمل، والحنين، والأسى، وما أشبه ذلك ليكون الشعرُ صوتَ الفرد المعبّر عن آلامه وآماله. وإذا كان النهج الكلاسيّ، ممثّلاً بشوقي وحافظ والجواهريّ، يحرِص على وحدة القصيدة في وزنها وقافيتها؛ فإنّ المنحى الرومانسيّ مال إلى تعدّد القوافي، وإلى جعل القصيدة على هيئة مقاطع؛ كلّ مقطع ينفرد بقافية. ولقد شُغف السيّاب، في نشأته الأولى، بهذا المنحى الرومانسيّ، ووجد فيه صدى نفسه، والنهج المعبّر عنه، وأُخذ به في شكله ومحتواه. وقد كان أقربَ شعراء الرومانسيّة إليه الشاعرُ عليّ محمود طه المهندس؛ كان يقرأ شعره، ويهتدي بنهجه، ويرى فيه الشاعر المُلهِم؛ بما صنع من أجواء، وبما صاغ من أنغام، ثمّ إنّه اتّصل به وأرسل إليه قصيدة طويلة من بواكير شعره، يريد رأيه فيها.

شُغل السيّاب، في أوّل أمره، بالمرأة والطبيعة؛ قضيّتَي الرومانسيّة أينما كانت ! أمّا المرأة فإنّها حلمُ فتوته وشبابه، وجرحه الذي لم يلتئم، وأمّا الطبيعة فإنّها تلك التي نشأ في كنفها من نخيل، وجداول ماء، ومشتبك أغصان. وإذا كانت الطبيعةُ ثريّة سخيّة، فإنّ المرأة بخيلة شحيحة لا تظهر إلّا كطيف سريع الزوال!

يقول في قصيدة من أوائل شعره؛ قالها في سنة 1945، إذ عمره تسعَ عشرةَ سنة:

لــو أراها، فارقت قلبــي إليــها أغنيـاتي

وارتمتْ ما بين نهديها نشــاوى راقصاتِ

لو أراها..آه لـــو أدركــت يومــاً أمنياتي

ماتت الشكوى على ثغر تمادى في الشكاةِ

وإذا دلّت القصيدة على غياب المرأة، وعلى الشوق إليها، فإنّها تدلّ أيضاً على لغة ثريّة متينة، وعلى أنّ الفتى الشاعر قد أمسك بزمام اللغة وأحسن أدارته في التعبير عن نفسه، وتصوير ما يريد. وليس قليلاً أن يُحسن فتى قبل العشرين عربيّتَه، وأن يُبين بها عن دخيلة نفسه. ولا ريب في أنّ أوائل شعره كانت تُنبئ عمّا سيؤول إليه أمره، وعمّا سيكون له من شأن في مدار الأدب. ولا يخفى على قارئ شعره حسنُ سيطرته على أدواته؛ لغةً، ونغماً، وتصويرا. يقول في قصيدة أخرى نظمها في سنة 1948، في المدار نفسه؛ المرأة وغيابها :

 أمسِ جاء الموعد الخاوي... وراحا

 يطرق الباب على الماضي... على اليأس...عليّا

 كنتُ وحدي... أرقب الساعة تقتات الصباحا

وهي ترنو مثل عين القاتل القاسي إليّا

كان، في تلك السنوات من أواخر الأربعينيّات، غزير الكتابة؛ مادّته المرأة وخذلانها، والطبيعية وتجلياتها، لا يكاد يفارق ذلك. وقد اتشحت أغلب قصائده بالأسى واللوعة ومناجاة الأحلام.

جرت أغلبُ قصائده على تعدّد القوافي، وقلّما بنى قصيدة على قافية واحدة، وكأنّه في ذلك يقتفي أثر علي محمود طه المهندس، ويأتسي به في جعل القصيدة متعدّدة القوافي. وقد مهّد له، هذا الأمر، الخروجَ على صيغة بناء البيت المحكمة، وإقامة الوزن على إيقاع جديد. لكنّه بقي رومانسيّ النزوع يقيم شعره المستحدث على الحبّ الضائع، والأسى الدفين، واستعادة الذكرى.

غير أنّ الرومانسيّة أخذت تنحسر، وشرعت تُخلي مكانها لنهج واقعيّ يرصد مشكلات الحياة في تصريف الحكم، وإدارة الاقتصاد، وما يتّصل بهما من شؤون المجتمع؛ ويريد من الأدب أن يعبّر عن ذلك، ويطلب من الأديب أن يخرج من حيّزه الضيّق إلى أفق أوسع وأرحب. وكان السيّاب نفسه قد اقترب من هذا الفكر الواقعيّ بنحو ما، ثمّ اتّصل به، وأراد أن يعبّر عنه في شعره، ويجعل من قضاياه مادّة يستقي منها أدبه؛ على أنّه، مع ذلك، لم يبرأ من النزوع الرومانسيّ تمام البُرء؛ فظلّ النهجان، الرومانسيّ والواقعيّ، يصطرعان في نفسه؛ فمرّة يغلب هذا، ومرّة يغلب ذاك!

وقد دلّ عنوانا ديوانيه الأوّل والثانيّ على تمكّن الرومانسيّة من نفسه؛ فقد سمّى الديوان الأوّل: “أزهار ذابلة” الصادر في سنة 1947، وسمّى الديوان الثاني: “أساطير” الصادر في سنة 1950، وكلا المعنيين من موادّ الرومانسيين في النظر إلى الحياة، والموقف منها. ولعلّ في عنوان ديوانه الأوّل: “أزهار ذابلة” إلماعاً بنحو ما إلى ذبول حياته وانطفائها قبل الأوان !

لكنّه، مع تمكّن الرومانسيّة منه، أراد أن يخرج من إسارها، وأن ينظر إلى ما يحيط بالمجتمع، وأن يجعل من قضاياه مدار شعره؛ ذلك أنّ حركة الحياة المتّسعة، وسيادة النهج الواقعي، منذ مطلع الخمسينيّات، أخذت توجه الفكر والفنّ، وتريد من الشاعر أن يكون صوت الشعب بنحو من الأنحاء؛ يُعرب عن آلامه وآماله. وقد شرع السيّاب ينصرف عن الرؤية الذاتيّة الصرف إلى رؤية موضوعيّة. ولكي يحقّق ذلك استعان بالأسطورة والرمز على طريقة الشعر الإنكليزي الذي صار مورداً من موارد ثقافته، لاسيّما وقد انتهى إليه قول إليوت : إنّ الشعر ليس تعبيراً عن العواطف، وإنّما هو فرار منها !

زاد حضور السيّاب في الصحافة العراقيّة، وفي أندية الشبان، وفي محافل الأدب، وصار له رأي في الشأن العام يقوله نثراً حيناً، ويصوغه شعراً في أغلب الأحيان. وقد بلغ منحنى حياته وشعره الذروة إذ كتب قصائد “ أنشودة المطر “ ثمّ أصدرها في سنة 1960. وقد تكافأت فيها الرؤيتان؛ الذاتيّة والموضوعيّة، وربّما غلب الشأنُ العام الشأنَ الخاصّ في بعض القصائد ! وقد أُتيح لجملة من هذه القصائد، كـ “ أنشودة المطر”، و” المومس العمياء “، و” الأسلحة والأطفال “، و” حفّار القبور” سيرورةٌ واسعة في العراق، وفي غيره من البلاد العربيّة. وقد رفعت شأنَ الشعر الحديث، واتّسعت به مثلما رفعت شأنَ السيّاب نفسه !

غير أنّ عوامل من المجتمع المضطرب، ومن اختلال بدنه، اصطلحت عليه فهدّت قُواه، وجنحت به أن يرجع إلى رومانسيّة مصطبغة بالنزوع الديني يلوذ بها ممّا هو فيه. يقول، في سنة 1962، وقد اشتدت به الأوصاب :

لكَ الحمدُ مهما استطال البلاءْ

ومهما استبدّ الألم ْ

لكَ الحمدُ، إنّ الرزايا عطاءْ

وإنّ المصيباتِ بعضُ الكرمْ

...

لكَ الحمدُ، إنّ الرزايا ندى

وإنّ الجراح هدايا الحبيب

قال ذلك، وقال أمثاله ممّا ينبئ باختفاء الرؤية الواقعيّة، أو تضاؤلها، والرجوع إلى رومانسيّة مستسلمة تُقيمه على حافّة اليأس !

لقد بدأ السيّاب رومانسيّاً، في الحياة وفي الشعر، ثمّ اقترب من نهج واقعيّ يريد أن يتّسع بالحياة والشعر معاً، لكنّ أسباباً من المجتمع، ومن بنائه الجسديّ والنفسيّ ردّته إلى رمانسيّة أسيانة حزينة؛ على أنّه ظلّ، مع ذلك كلّه، ثريّ الشعر، خصب القريحة، متوهج اللغة...

عرض مقالات: