اخر الاخبار

لا يختلف باحثو الفلسفة في عد الميتافيزيقا اتجاه فلسفي اسس لبنية عقائدية مذهبية يمتلك مساحةٌ واسعة من تاريخِ الفكر الفلسفي عبر زمن يبدأ من ما قبل الإغريق ويستمر مع تحولات فاعلة عبر زمن التطور النسيجي المعرفي , ويمكن ان تعد الميتافيزيقيا بالأوسع تاريخا وتأثيرا واستمرارا , ومن ثم الأوسع انشطارا وتنوعا , كما انه اسس لتفاعل منطقي مع  اللاهوت وتناغما مع الفكر الديني .

والأسباب في كل ذلك يمكن استنتاجها على وفق ما يأتي:

لتصالحه الواضح مع استراتيجيات السلطات الحاكمة ومنها الامبراطوريات الكبرى قبل الميلاد وبعده التي سبقت الإغريق كما في بلاد وادي الرافدين ووادي النيل ,حتى إن البعض من الباحثين قد انبت بضاغطي الخوف و المصلحة ، الاول في قراءة الوجود وما فيه من فناء ، و الثاني في برجماتية العيش و صراع البقاء المتطور عند الانسان  .

وهنا تكمن حالة المصالحة المستمرة بين السلطة والفكر الميتافيزيقي ولاسيما اللاهوتي، إلا في حالة الانشطارات المذهبية التي في ظاهرها عقائدية دينية وفي اعماقها صراع على الهيمنة السياسية والاقتصادية، الامر الذي اسس لهيمنة رجال الدين على اختلاف صور الاديان لأزمنة مهمة من تاريخ البشرية الذي حقق تناغماً بين سلطة الدين وسلطة الدولة.

اذ قلما نجد الميتافيزيقيا بأنواعها في صراع او مجابة بوصفها فلسفة أو ثقافة مرتدة أو مناهضة للسلطات الحاكمة الا في صراع على السلطة. وقراءة ذكية لسيكولوجية الخلود والحياة ما بعد الموت التي تناغم رغبات الإنسان وتحقق له الاطمئنان والارتياح على مستويين سيكولوجي وأبستمولوجيا.

والموقف مستمر مع سلطات الزمن الحديث والمعاصر عكس ما جابهه من رفض وتنكيل للمادية الجدلية وفي أحيان الوجودية والاتجاهات العلمية التي ترفض التابوهاتات المتخلفة. ولامتلاك الميتافيزيقيا منذ بواكير الفكر الإغريقي وحتى هنري برسكن وغاستون بشلار لعدد مهم من أساطين الفلاسفة لهم قيمتهم ونتاجهم القيم في تاريخ الفكر الإنساني عبر قرون طويلة , وبعض منهم ذو استمرارية في التأثير من القدم إلى المعاصرة كما هو حال أفلاطون وأرسطو وكانت وهيجل .

وهكذا تحقق الاستمرار والثبات عبر حقب تاريخية تعد طويلة نسبيا وتميزت الميتافيزيقيا بالتحول والتطور وأحيان كثيرة تدعو التحولات والتطورات الى الاختلاف عن سابقاتها في الجزئيات وفي أحيانا نادرة يكون الاختلاف ملامسا للكليات.

عندما نقول ان الميتافيزيقا في التزامها واستدعائها لمنطق الروحانيات والغيب وطاقته المطلقة التي لا يمكن الامساك او القياس فيها وعليها، يحق لنا ان نعدها الأوسع تناغماً وموافقة لطموحات الانسان ورغباته في ان يكون متسيداً على محيطه حتى ضمن دائرة المنطق الافتراضي ،  فالإنسان  لا يتحمل فكرة العدم او التحلل الى عناصره الفيزيائية التي تعد واقعة او حدث يتكرر منذ بداية الوجود الطبيعي.

 ان الرغبة الجامحة التي توافق افتراضاته في حياة ما بعد الموت والخلود الدائم، تعد دفقة استمرار ونمو للفكر الميتافيزيقي بأنواعه وأشكاله المختلفة. حتى ان الإضاءات الابداعية للإنسان قبل ان يتعامل مع الفكر الميتافيزيقي و قبل ظهور الأديان المهيمنة بحكم الكثرة ومساحة الانتماء الجغرافي، تؤسس لتوافق ابتدائي مع بدايات الفكر اللاهوتي، اذ كان الانسان يقدم رسومه في الكهف لأحداث او وقائع يقترض انتصاره وتسيد وجوده ورغبته المتطورة للهيمنة عليه الا ان مشكلة الموت ارقته، فرسم وقائع او احداث افتراضية لكنها قابلة للتحقيق، و تحققت اجزاء منها فعلاً. ومنها رسوم صيد حيوان الماموث والغزلان.

يمكن ان نعد لفكر الغيبي وما تكاملت معه رؤى الروحانيات التي اعتمدتها الافكار اللاهوتية الدينية والتي وجدت في ارض خصبة لها في اروقة المعابد. جذور مهمة ومنطلقات راسخة للفكر الميتافيزيقي، والسبب واضح يعتمد العلاقة الفاعلة في الرؤى الفلسفية، وما تناغم مع ثقافة السحر التي تعد في صميم الميثولوجيا القديمة بوصفها داعمة مهمة لجذور هذا الفكر الذي ما لبث ان اسس منهجا فلسفيا يعد من أقدم المناهج واوسعها انتشاراً وتأثيراً في حياة الانسان.

ان منطق البحث العلمي بأطره العلمية يؤمن ان هذه الافتراضات تنم عن رغبات او دوافع ضاغطها الاستمرار بالوجود بأفضل ما يمكن ان يكون عليه , فعندما استطاع الانسان ان يطور حياته بعد الكهف تغيرت لديه امكاناته المتاحة فأسس المعبد وانطلقت الميتافيزيقيا من الكهف الى المعبد وتنوعت وهي في تنوع مستمر. وقطعا ان تأسيس المعبد كان بأراده السلطات المهيمنة على المجتمع، وبذلك تطورت هذه الهيمنة فتناغم كهنة المعابد مع اصحاب السلطة والقوة الى ان اندمجت مصالح المعبد مع القصر في الدويلات والامبراطوريات في اصقاع الارض.

والمواقف مع تحولات الزمن تتشابه بل تتكرر باختلاف في الظاهر او المظهر، الا ان ضغط التطور العلمي والثقافي كان ومازال محرجاً للميتافيزيقيا، الا انها استطاعت ان تستثمر القوى العلمية في تطوير افتراضاتها وتحقق قناعات بمنطق العلم ذاته، وهي محاولات بدأت مع ارسطو وكان لديكارت وهيجل وهوسرل وباشلار جولات منطقية مهمة اعطت للميتافيزيقيا دفقة حياة، ومحاولات الفيلسوف (غاستون باشلار) في احالة الميتافيزيقا الى الاداء أو تطبيق حياتي ملموس الا صورة من هذا الاستثمار الفذ. 

لكن الصراع بين العلم والافتراضات الميتافيزيقية صراع دائم، واعتاد الميتافيزيقيون غلق الجدل بقوى الغيب التي تعتمد الايمان ولأسئلة المحرجة لا مقدرة للعلم التجريبي من حلها.

والبحث في تحولات الفكر الميتافيزيقي يحتاج الى مساحة من الاستقراء لحركتها ولاسيما مع افلاطون وتلميذه ارسطو، لتتهيأ لنا بعد ذلك تلك التوافقية بين الاديان الثلاثة الكبرى والتفلسف الميتافيزيقي.

عرض مقالات: