اخر الاخبار

تشيخوف قدم له (ستانسلافسكي) مسرحياته في مسرح (موسكو الفني) في (1899)- “الخال فانيا”، و (الاخوات الثلاث)) في (1901) – و “بستان الكرز” في ( 1904)، امتاز إسلوبه الفني، بالاختزال، وكتبه مسلية، وواقعية، وقصيرة – بخلاف دستويفسكي وتولستوي اللذان يكتبان عشرات الصفحات عن شخصية ما، يصورها تشيخوف بلمحة سريعة، وبتفاصيل صغيرة وخطوط قليلة بارزة، فهو يرى (الايجاز): (روح الذكاء، وقرين الموهبة) وهذا مايجعلك متعاطفاُ مع أبطاله، ان كانت شخصيات (تولستوي) تعاني بصورة معقدة، وبإسلوب متعال عن : (الله – الحب – الروح الروسية) فإن شخصياته نجدهم يشبهوننا نحن، ( من غير أن نقتل سيدة عجوز بفأس، أو نحارب نابليون في معركة) كما يقول ناقد روسي من أقواله (تشيخوف كم هو جميل هذا اليوم، لا أعرف ما اذا كان ينبغي لي شرب كوب من الشاي؟ أو أشنق نفسي) وكتب مرة: (شربت كثيرا، لدرجة تجعل روسيا فخورة بي) ويقول: (الطبُ زوجتي الشرعية، والادب عشيقتي).

لقد أفاد تشيخوفمن زيارة لجزيرة سخالين وما يكابده المعتقلين في (سجنها) الرهيب وحياة سكانها المحليين يقول عن نصوصه المسرحية) ان كتاب المسرح يحشرون في أعمالهم، ملائكة، وأنذال، ومهرجين، وأردت أنا أن ابتكر، فلا وجود عندي لقاطع طريق أو ملاك (...) ثم يضيف ولم أتمكن من الاستغناء عن المهرجين – ولم أتهم احداً أو أبرئ أحد).

ولقد بدأت بمسرحية (النورس) قوية وأنهيتها هادئة جداً، فالبطل نراه يأكل ويشرب ويغازل، ويقول الحماقات في أغلب الأحيان، وهذا ماينبغي أن نراه على المسرح- لنترك الحياة والناس على حقيقتهم بلا مبالغة.

لعبت زوجة تشيخوف (أولغا كنيبر) ادوار البطولة في كثير من مسرحياته، تحتوي نصوصه على جوانب فرعية تضيء الامل من غير ان تدون بكلمات، بآمال خفية، وبروح من الدعابة، والسخرية المعافاة.

يقول عنه (ستانسلافسكي) في الغالب لا يعبر تشيخوف عن افكاره في الخطب، بل في التوقفات، فشخصياته تومئ بالاشارات لابسطور يتحدثون بها. وكانه يتطابق مع تعريف (بول فاليري) للحوار بوصفه (ذلك التردد الممتد مابين الصورة والمعنى) فنرى تشيخوفيجمع بين المضحك والمبكي والطبيعة والشعر .

والتجربة الاخراجية – لدى جواد الاسدي حيث نراه يحول في مختبره التجريبي، المضمرات اللامرئية غلى مرئيات مشهدية، جمالية في تشكلات العرض المسرحي من وجهة نظر متصلة (بتوليف) عناصر العمل الفني وبتركيب مستوياته الايديولوجية والفكرية، بأساليب تعبيرية في زمان العرض، ومكانه المغلق في ثنائية منفصلة، مابين – السجن الذي يقبعون فيه تحت حراسة بوليسية مشددة، وخارج لايمكن النفاذ اليه، تترصده آليه العقاب والدمار.

عادة ماتوصف مسرحيات تشيخوف(بالغنائية) أو (بدراما المزاج) وهي تصور (مجرى الحياة) بطابعها المحلي الروسي، متصلة (بكنايات) عراقية، يوحي بها العرض المسرحي، بشكل مضمر أحياناً، أو معلن في أحيان اخرى .

يرى (غوركي) - ان تشيخوفيفهم الطابع المأساوي لنثريات الحياة، وصغائرها.. فلقد كافح ضد التفاهة وسخر منها، بنقد لاذع جاد طوال حياته، وهذا يذكرنا بمقولة (جادامير) الذي تساوق معه المخرج (الاسدي)، بأن العمل الفني له وجوده الخاص، مما يجبر المتلقي على التوقف عند هذا العمل، ليتأمله بدقة حاذقة، فقد يرى الجمهور ابطال العرض بالانشغال (بفكرة عبثية) لكنهم سرعان ما يتبينوا انها قد جاءت مبنية في سياق العرض المسرحي، بنسق جاد، وببعد جمالي دال، مرتبط بنمو الشخصيات وتبدلاتها السلوكية، وايقاعها العام – فالمخرج قد أقام علاقة ديناميكية – جدلية- برؤية فنية متميزة، بأناقة احترافية باذخة تمظهرت بطرائق تشكيلات العرض وكيفياتها المتخيلة، المثيرة لتفاعل الجمهور وهو يرقب تفاعل الجزئي مع الكلي والفردي مع العام وما تحيل اليه من مرجعيات(محلية)، وقد اظهر الممثلون (مناضل داود) في دور الطبيب و (حيدر جمعة) في دور المريض النفسي الذي دمرت حياته الخاصة والعائلية بالكامل، والذي قضم اصبع الطبيب، وذلك التابع (امير احسان) (ايغوركا) الذي يتغنى بالنقود (الكوبيكات) والمغرم بالزواج من (النائبات) و(اياد الطائي) الممثل الذي ادى في غابر اعماله دور (الحوذي) ليتقمص دوره من جديد وبشكل آني، ببعد تراجيدي يرثي ذيل حصانه المقطوع، بعد ان أردوه قتيلاً، حصان كحلت عينيه بكحل عربي وهو يشع بياضاً وفتوة، وفرحاً في الحياة مع مهرة أصيلة، وذلك العازف المبدع (أمين مقداد) أو ذلك الشرطي ( جاسم محمد) الذي يدمر كل من تحت حراستهبما فيهم الطبيب النفسي، او الاقتصادي الحاصل على أوسمة عالمية .. استطاع المخرج تحريك المجموعة بدقة متناهية وبخطوط منتظمة ومتراكبه وعشوائية قصدية سرعان ماتصطخب بأنساق هوجاء، هادرة ضاجة، أو مايتبعها من مواقف هامدة ساكنة خافتة تبعا لمتطلبات (المشاهد) المتتالية والمتصلة والمتشابكة والمنعزلة حيث يتحوطها سطح معدني خانق كامد ببوابات مغلقة، ونوافذ معتمة يجمعها المنظر المسرحي، الممتد والمتطاول غلى غلق أفق السماء، وبما صف من كراسي، وطاولات وقدور حساء وشوكات رنانة وبإضاءة ملونة بالاحمر والازرق الحار والبارد والغائم الباهت الرمادي ليختتم العرض بجثة معلقة من داخل الحصن المعدني المتحجر وبسكون المجموعة المريب (وبانتفاضة) الطبيب إلى (وداعة) مستكينة للأمر الواقع، الذي شخصته قوى سلطوية ماحقة، وبوليسية مخابراتية شرسة.

لقد تفوق كادر العمل المسرحي على نفسه، وكل منهم يظهر سمات شخصيته (personality Traits) باداء تعبيري وبمغايره انزياحية ومشاركة ملحمية جمعية فعالة، بإسلوبها المهاري المبتكر في مقاربة ادوارهم حيث تتحكم الاسباب بالنتائج ليتركوا انطباعا مدهشاً فجر تعاطف الجمهور وعمق تماهيه مع خطاب العرض وفكرته الانسانية، وجلالها المبهر .. شكراً للمخرج ولمساعده المبدع صميم حسب الله.

عرض مقالات: