اخر الاخبار

عندما أقرأ قصائد الشاعر الراحل ابراهيم الخياط، يخيل لي إني أقرأ قصيدة واحدة،متصلة، ومترابطة، حتى لتغريني بوصفي ناقداً مولعاً بالتصنيفات والتحقيبات، بالحديث عن تشكل متوالية شعرية، على غرار المتوالية السردية في السرد القصصي والروائي، والتي تجعل نصوص مجموعة قصصية ما تتكامل وتترابط،ضمن رؤيا فنية وحياتية موحدة، ربما لتشكل ما أسماه الشاعر المغربي محمد بنيس مرة، وهو يتحدث عن الشعر المغربي الحديث بـ” المتن “ الذي قد يكون قصصياً أو شعرياً.  وهذا المتن الشعري المتماسك الذي تنسجه قصائد ابراهيم الخياط يبدو أحياناً مثل سيرة ذاتية يرويها الشاعر، وربما يذريها ذرة، ذرة، وهو يقدم شهادته عن حياته، وحياة جيله ومدينته التي عشقها حتى الموت، وجعل من نهرها خريسان، فراتاً دافقاً بالحياة والخضرة والفرح.

 

 

وهذه القصيدة الطويلة شبه العنقودية تبدو مثل مونولوغ داخلي مطول يخاطب فيه الشاعر نفسه، ويدعو الآخرين لمشاركته هذا الاحتفاء، ويقدم بعفوية شهادته اللا تكذب عن عصره، فهو شعرياً، لايعرف أن يكذب ، وإن قالت العرب أن أجمل الشعر أكذبه.

فالشاعر حاضرٌ دائماً بروحه وجسده وصوته، عبر ضمير المخاطب وهو يلقي بالحصى والاسئلة ويرسل وصاياه الأخيرة للريح ولجنة البرتقال وماء نهر خريسان، ولتلك التي أسرت أول الكاظمين فها هو في قصيدة “الغيوم” يخاطب ذاته عبر ضمير المخاطب (أنا)

“ ذات حرب

غفوتَ تحت شُرفة الحدود

فاندلقت خرزة أحلامك على الوسادة

الترابية”

لكن ضمير المتكلم، يظل هو سيد الخطاب الشعري عند ابراهيم الخياط، فهو اكثر ألفة وتدفقاً وغنائيةً وهو يفتح الجراح برفق، كما في قصيدة”قلبي”

“ قلبي،أوهذا الجحيم الذي قرأته

الأفياء القائظة من عهد ابراهيم،

وتمنته الرمضاء الربذية تابوتها.

وكما نلاحظ في هذا المقطع، بل وفي كل شعر الشاعر تظل قصيدة التفعيلة أو قصيدة الشعر الحر بمواصفاتها المعروفة بتعدد تفعيلات البيت الشعري الواحد هي المهيمنة في شعره، فهي دائماً موزونة، ولكن دونما تقفية مصطنعة أو ثقيلة، لكنها تنساب بايقاع موسيقي شعري داخلي، كما يمكن أن نلاحظ ادراج مقاطع من قصيدة النثر داخل شعره والتي تبو موزونة لشدة عذوبتها وايقاعيتها العالية، ويمكن هنا أن نستثني القصيدة الأخيرة في الديوان الموسومة بـ “ بعيداً حيث أنا” والتي هي قصيدة مدورة، على غرار قصائد الشاعر حسب الشيخ جعفر المدورة، حيث تتلاحق الجمل الشعرية الموزونة داخل كتلة لغوية، شعرية شبيهة الى حد كبير بكتلة قصيدة النثر الحديثة التي تأتي على شكل فقرات محاكاةً للسرد والنثر عموماً، وفيها يطرح الشاعر سلسلة من الأسئلة الحارقة التي ترتبط بمراحل “عشرية” من حياته بعد أن تماهى تماماً مع جمل المحامل “ المنتزع من لوحة الفنان التشكيلي الفلسطيني سليمان منصور:

“ طفل المزاهر.. هل تذكر؟

نامت سنون اللثغات على كتفين منك غضتين طوال عشرهنَّ

إستواء الجذر المطلق وايصاء أب طماح ويستنشقك ويكتم على زفيره لئلا تتسرب من خلله..” (ص 110) حيث يختم الشاعر القصيدة بسيل من الاسئلة:

“ وشامخاً تلفك الحيرة العظمى

جمل المحامل .. هل تنسى؟

جمل المحامل، هل تغفر؟” 114)

ويقيم الشاعر ابراهيم الخياط علاقة روحية عميقة، تصل حد العشق والوله، بينه، وبين المكان وتحديداً مكانه الاليف بتعبير باشلار مكان الطفولة والشباب والنضال “ مدينة بعقوبة التي عدها الشاعر مليكة بين جميلات المدن، وأعلنها جمهورية للبرتقال ومملكة للخصب والحب والربيع الدائم. بعقوبة حاضرة في كل ما كتب الشاعر، فهي التي تمده بالمداد السري الذي يكتب به قصائده وينسج من خلاله لغته الشعرية الأنيقة الجزلة والمأنوسة في آن واحد، والتي تنفتح على توظيفات بلاغية واستعارية وازاحات صورية أخاذة، وتوظيفات واشتقاقات لغوية جديدة (أخالل من، ينرجس الوقت) وشعره يحفل بتناصات غنية ومتنوعة مع التراث والقرآن الكريم، ومع شعراء عديدين. اذْ يستحضر لسان الدين ابن الخطيب في موشحه “ جادك الغيث” :

“ عيناك خردلتان.

والحرائق طائرات

فهل جادك الغيث

عندما الموت همى .” (ص 30 )

وفضلاً عن ذلك نجد هنا تناص الشاعر مع مطلع قصيدة السياب:

“ عيناك غابتا نخيل ساعة السحر

أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر.  “

ونرصد صوت الشاعر يوسف الصائغ في قصيدة

“ يا أمرأة الوجع الحلو “:

“فتأخذني الضفاف

ولا أقول

تقدُّ قميصي من الجهات أربعها،

ولا أقول “ ربّ السجن أحبُّ اليَّ “ (ص 16)

ونجد هذا التناص مع قميص يوسف مع القرآن الكريم، بصورة استعارية اليفة. كما يدين الشاعر كل العذابات التي عاناها، ويعانيها كل يوم شعبه بسبب العسف والاضطهاد و “الضيوم” التي تعرض لها:

“ هذه البقعة الدائرة على

دارك التي مثل سمائك وفق الأفق الشرعي.. من نصف ألف وهي ملبدة بالضيوم” (ص 66)

 وعلى الرغم من كل هذه العذابات يظل الشاعر متعلقاً بالأمل، وهو يغني لخضرة البساتين وعطرهاً مؤسساً ربما لقصيدة البيئة العراقية، ولكن دونما إسقاطات رومانسية أو استعارات رعوية:

“ اكتب قصيدتك الأخيرة قبل فصل السلام،

اكتب قصيدة تتمنى لك القفول

الى البساتين،

فالبساتين

فندق مشاع للشعراء والسكارى

البساتين

ليمون وأنين،

البساتين

ملاذ الساسة والعشاق والكلاب

البساتين بلا سقوف تنوء بكل الأسرار

لا تنام ولا تموت

كما أنت، يا كفأها.

لا تنام ولا تموت” (ص 61)

فالشاعر يغني للبساتين المفتوحة لأنها لا تموت، لأنها تضاهيه وكفؤٌ له، فهو أيضاً لا ينام ولا يموت، فكلاهما يسهران بانتظار الفرح والأمل والخضرة الدائمة، ولذا فأن الاحساس بالفجيعة والخسارة والضيم والاضطهادات وجراحات الحروب والخنادق التي لفت حياته، وحياة جيله وشعبه لم تسقطه في حالة اليأس والقنوط والجزع والخذلان فهو يظل يحلم، ويناضل، وربما يحفر بأظافره طريقاً الى فجر قادم.

وفي الختام لا يسعني الا أن أستعيد معكم مع ما كتبته على الغلاف الأخير من الديوان عند صدوره، مع تعديل طفيف:

“ ابراهيم الخياط شاعر يمتلك صوتاً شعرياً متميزاً بين أقرانه، شاعر يذكرني بالسياب وسعدي يوسف، ويوسف الصائغ، فهو يمتلك ناصية لغة شعرية خاصة به،جعلها تتصدر التجربة الشعرية لما فيها من انزياحات وصياغات إستعارية وصورية، وتوليدات إشتقاقية جديدة، كما يمتلك الشاعر لغة تراثية نرجسية أنيقة ومترعة بالجزالة والتراث، قلما يقترب منها شاعر محدث. ربما فعل ذلك السياب، لغةً قد لا تكون “جواهرية” في نصاعتها واشراقها. لكنها تحمل روح التمرد والتحدي والرغبة في توليد مفردات بكر متألقة. والشاعر مهموم بالحياة وبقضية الوطن والانسان والارض، ولذا نجده دائماً، يقيم هذه الحوارية بينه وبين الأنسان في تدفق شعري قلما نجده بين مجايليه من الشعراء، انه شاعر تجربة فريدة وخاصة بحاجة دائمة الى اعادة القراءة والتقليب والتأويل.

يمكن القول أن قصيدة ايراهيم الخياط المطولة هذه، هي إشارة الى استمرارية الحياة وأفقها المفتوح،وهي ترتبط عضوياً بموقفه في الحياة ورؤيته الشخصية لكل الاشياء الذاتية والموضوعية، وربما تلتحم حد التماهي مع شخصيته الفاعلة، حتى ليمكن القول  باستحالة الفصل بين شعر ابراهيم الخياط في جمهورية البرتقال، وبين ابراهيم الخياط القصيدة والانسان.

عرض مقالات: