اخر الاخبار

في الذكرى الخامسة لاستشهاد كامل شياع قدمت مداخلة تحدثت فيها، من بين ما تحدثت، عن آخر لقاء جمعني بصديقي الحميم:

 

“على مدى ثلاث ساعات في مساء رائق في حانة بحي هامرسميث غرب العاصمة البريطانية تحدثنا، من بين أمور أخرى، عن مقاله الساطع (عودة من المنفى)، حتى لكأننا كنا أمام هاجس موته .. لكنه كان، كما تجلى في محياه وفي روحه، هاجس التشبث بالضفاف.. غالباً ما كان يبدو رفيق أرق في مجابهة أسئلة الواقع وهو يجسد موازنة قلقة بين الهم اليومي والمرتجى الجمالي.

تجادلنا بشأن منهجنا الذي يحمل عنوان: إعادة النظر، بمعنى إعادة القراءة .. رؤية الماضي بعيون جديدة، والدخول الى نص قديم من وجهة نقدية جديدة. وما أزال أتذكر إنه قال: لا يمكن إنجاز مثل هذا الكشف الا عبر وعي مختلف جذرياً عن الوعي السائد الذي يصوغ الأفكار.. فأكملت قائلاً: لا يمكن اختراق النظام المغلق للثقافة السائدة الا عبر وجهة نظر ترتاب بقيم هذه الثقافة وافتراضاتها، سعياً لنقدها والاطاحة بها..

تحدثنا عن نظرة جديدة في نقد الرأسمالية في سياق مساهمة متواضعة في إعادة قراءة فكرنا الماركسي .. وتحولنا الى حديثنا الأثير عن جماليات الأدب والفن.. والتباسات ما بعد الحداثة .. والرواية التي كانت له نظرات عميقة فيها.. والموسيقى الكلاسيكية التي أحبها.. ما زلت أتذكر الى أي حد كان، في لقاء سابق، مرهف الحس، ونحن نستمع الى كونشرتو الكمان لباغانيني .. كان يصغي بالصفاء ذاته الذي يتحدث به: عميق الفكرة .. جلي العبارة .. رفيع اللغة .. شفاف الروح .. كثير التواضع .. وفيه فيض من ذلك الحياء الذي سماه ماركس عاطفة ثورية..

تواعدنا على اللقاء قريباً في بغداد لكي نكمل جدالنا حول المشروع الثقافي في العراق، وإعادة الاعتبار للثقافة ومبدعيها .. وكان هذا أحد محاور حديثنا اللندني .. وما كنت أظن أن لقاء مرتقباً يمكن أن يتحول الى كابوس.. من منا كان يظن أن بغداد يمكن أن تتحول من حلم الى كابوس ؟”

لكن كامل خذلني ولم يفِ بوعده .. وكنت أعرف أن الضحايا الذين يضيئون دروبنا لا يخذلون صديقاً ولا ينكثون بوعد .. لكن تلك هي الحياة !

كامل شياع لم يكتب كثيراً، غير أنه كان كاتباً من طراز رفيع .. فكثرة الانتاج ليست، كما تعلمون، دليلاً على الابداع في كل حين .. أمامنا مبدعون عظماء كانوا مقلين .. في هذا السياق ترد في الذهن أمثلة (ذهب مع الريح)، الرواية الرائعة لمارغريت ميتشيل، الفائزة بجائزة بوليتزر، والتي تحولت الى فيلم يحمل الاسم نفسه، وكان من بطولة كلارك غيبل وفيفيان لي، وقد حاز على الأوسكار، وكان رابعاً في ترتيب أعظم 100 فيلم في القرن العشرين .. وأمامنا مثال (كوخ العم توم) لهارييت بيشر ستو، التي هزت المجتمع الأميركي في القرن التاسع عشر، وكانت ايذاناً بانتهاء نظام العبودية .. وأمامنا أولئك الشعراء الذين اشتهروا بقصيدتهم الواحدة، ومن بين أعظمهم ابن زريق البغدادي في قصيدته العذبة (لا تعذليه فان العذل يولعه ...) .. والأمثلة كثيرة ..

لم يتسن لكامل أن يكمل أغنيته .. فقد كان مقلّاً في الكتابة، مكثراً في التأمل والقراءة، حتى أنه لم ينجز كتابه الأول، بل ولم يترجم أطروحته في الطوباوية، وهو المترجم الضليع ..

ستركز مداخلتي على بعض إضاءات لمقاله المميز (عودة من المنفى) باعتباره نموذجاً في الكتابة الابداعية من حيث المنهجية الفكرية والفنية والقيمة الجمالية .. وأود أن أصف هذا المقال بأنه (نبوءة الضحية) .. غير أنني لن أستعرض المقال كله هنا، وقد قرأه جميعكم أو أغلبكم ..

عرف كامل قاتله عندما قال: “أعلم أنني قد أكون هدفاً لقتلة لا أعرفهم ولا أظنهم يبغون ثأراً شخصياً مني، وأعلم أنني أخشى بغريزتي الإنسانية لحظة الموت حين تأتي بالطريقة الشنيعة التي تأتي بها” ..

وكامل يفتتح مقاله، المنشور في تشرين الثاني عام 2005، بالقول: “عدت إلى العراق قبل عامين، تاركاً ورائي قرابة خمسة وعشرين عاماً من الهجرة القسرية. تلك العودة إلى ما حسبته ملاذي الآخر أو الأخير، عللتها لنفسي بأن فصلاً من حياتي صار ماضياً ينبغي طيـّه فطويته، وأن فصلاً آخر قد فتح إحتمالاته، على مصراعيها، أمامي فاستجبت إليه. لم أقصد أن أكون مغامراً حين مضيت في رحلة العودة التي لم أتخيلها منذ البداية نزهة في عالم الأحلام، ولم يأخذني إليها حماس رومانتيكي. لقد شعرت فقط بأنني مدعو لرحلة نحو المجهول، وفي ذلك يكمن سر انجذابي اليها”.

ويختتمه بالقول: “عدت من المنفى وأنا مدرك أن لا عودة لي منه لأنه يجدّد نفسه في كل تماس مع ما هو مألوف أو غير مألوف. وسوف تلازمني أشباحه كما لازمتني أشباح الوطن.

كل إنسحاب من المنفى تعميق لجذوره وتمويه لخفاياه. أي أوجاع سرية يورث المنفى، أي شفاء يحمل الوطن؟”

وبين البداية والخاتمة نجد الكثير الكثير من أفكار كامل المضيئة وتحليلاته العميقة .. كل مقطع فيه عالم رحب ينقلنا بين عذابات المنفى ورحلة العودة، مواجهة الموت والنظرة الى العراق ومصائره، تمثل التجربة والتشبث بالأمل ..

وترتسم أمامنا صورة ساطعة عن حياء كامل .. هذا الحياء الذي يتجسد، ورفيقه التواضع، في سلوك كامل، الذي قُدّت روحه من بلور، وفي كل ما كتبه من نصوص ورسائل ..

و(عودة من المنفى) مقال أدبي مفعم بالصور الفنية والقيم الجمالية .. باللغة الشاعرية والمجازات الموحية والأسلوب الآسر .. فيه شكل خاص من السرد، لكنه ليس قصة أو فصلاً من رواية، وهو يسمو، بخصوصيته، على مثل هذا السرد من زاوية معينة ..

وهو مقال سياسي مفعم بالأفكار والتحليلات العميقة ووضوح الرؤية ..

وهو مقال معرفي مفعم بالتأمل والوجد الصوفي ..

كشف كامل عن مستنقعات الخراب عبر الوعي التنويري والنظرة الواقعية .. رأى الماسأة عبر المعاناة، والضفاف عبر الأمل .. وهو ينقب في ذاكرتنا نحن الخاسرين، نحن السائرين الى ضفاف الحرية ..

الناس هنا يشكلهم سفك الدماء، وهم ضحاياه .. وقد يكون الموت اليومي، المجاني غالباً، ظرفاً استثنائياً، غير أنه لا يمنع تدفق المشاعر الانسانية واستمرار الحياة ..

وكامل شياع يتعامل مع العنف اليومي والمشاعر الخبيئة الملتبسة، وهشاشة الروح الانسانية، وجلدها في المقاومة، وغير ذلك مما يعتبر الصراع اقليمه الطبيعي ..

لهذا نراه وقد أرهقته الأفكار التي يسلط عليها الضوء، ويريد، في الوقت نفسه، أن ينساها .. يتوق، وسط الظلام واليأس والرياء والانحطاط، الى حلم يومض في ذهنه .. لعله ذلك الذي عانق، غير مرة، فجر المدينة، عندما كان يجول في شوارع بغداد ..

وتأملات كامل شياع الداخلية هي أفضل ما لديه، حيث تتحول التداعيات الى لغة تجسد الهواجس حول وحشة الموت، والصداقات الحميمة، وتعقيدات العاطفة الانسانية، ومعرفة الحقائق ..

إنه يحاول أن يجمع أجزاء الحياة الضائعة لأولئك الذين أطاح بهم الدمار السايكولوجي، محاولاً، أثناء ذلك، إعادة اكتشاف الأماكن الضائعة وعزلة الشخصيات ..

لقد ظل كامل شياع، حتى لحظاته الأخيرة، مهاجر واقع ومهاجر مخيلة، مفعماً بوجع التوازن القلق بين خراب الثقافة السائدة ومرتجاه الجمالي التنويري، وحلمه المستحيل ..

وأخيراً ... ليس من الصواب أن نبحث عن سياق سياسي لكتابات كامل شياع .. ففهم روحه يتطلب أن ندرك مسعاه الجمالي ووجده الصوفي ..

تشفى الجراح .. لكن من يشفي الذاكرة !؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* إحياء للذكرى الثالثة عشرة لاستشهاد كامل شياع (23 آب 2008) .. المداخلة التي قدمها الكاتب في فعالية الاستذكار التي نظمتها دار الثقافة والنشر الكردية في الأول من أيلول 2016 على قاعة بيتنا الثقافي ببغداد، ولم تنشر في حينه.

عرض مقالات: