اخر الاخبار

كان شخصاً إستثنائياً بين مجموعة السجناء الذين حكم عليها بالسجن لمدة محددة .. جميع السجناء الذين أعتقلوا في احدى المدن القريبة من بغداد. كنا اقل من عشرة سجناء نطق رئيس المجلس العرفي العسكري في معسكر الرشيد آنذاك بهذا الحكم الموحد. بدأ التذمر والصياح يتصاعد من قبل أفراد مجموعتنا. لكنه الوحيد الذي بقي صامتاً، وكأن الأمر لا يعنيه. أثار الأمر فضولي، فعزمت على التعرف عليه. وعلمت أنه معلم في احدى المدارس الأبتدائية في تلك المدينة وينتمي الى طائفة الصابئة المندائيين، القليلي العدد في المحافظة، وهمس أحد زملائي في المجموعة إنه (سميع داوود) ويقال إنه شاعر. وكانت كلمة (شاعر) بالنسبة لي مبرراً كافياً للإقتراب منه أكثر، فقلما تجد بين آلاف السجناء شعراء أو كتّابا، وهؤلاء في الغالب لايزيد عددهم على أصابع اليد الواحدة.

كان الراحل (سميع داوود) عندما التقيته في سجن (نقرة السلمان) بعد انقلاب شباط ١٩٦٣ هادئاً وصامتاً مثل بحيرة عميقة وساكنة. وفعلاً كان صمته يخفي عمقاً وثراء وإنسانية. وبذا راحت تمتد أواصر الصداقة بيننا وتتعمق. فكان يشارك في الفعاليات والندوات والاماسي الثقافية والأدبية التي كنا ننظمها آنذاك، وكان يمتلك صوتاً شعرياً دافئاً ومتميزاً، لكنه كان يكشف عن مسحة حزن عميقة، عبر عنها لاحقاً في ديوانه الشعري (مراثي ميزوبوتاميا) 2010 ، والتي ستحضر فيها كل الرموز الحضارية والثقافية للعراق عبر التاريخ. لقد كان يرغب أن يخلق لشعره هذا هوية حضارية ميزويوتامية، وعراقية وربما مندائية خاصة وأصيلة، في معظم قصائده. وربما في إشارة لهويته الثقافية والاثنية بوصفه صابئياً ، يحتل الماء مكانة خاصة في الطقوس المندائية بوصفه رمزاً للطهارة والبقاء. ومع أن الراحل كان علمانياً في تفكيره، الا أن اللا وعي الجمعي يتحرك في مثل هذه المواقع ويكشف عن دخائل (هوياتية) مضمرة، لا يمكن أن تمحى بسهولة.

ففي قصيدة “ النهر” يتابع الشاعر بلهفة النهر وهو يجري بعيداً مشكلاً ثنائية ضدية مع العطش:

“ بعيداً.. بعيداً يجري النهر

حتى كأنني أرى رذاذه

يتجاسر على عطشي.”

فالنهر اكثر من رمز وحلم وهوية ، لذا فهو يحلم دائماً بنهر صغير يحمله بعيداً عن جنوب الدم ، بوصفه ملاذاً آمناً من العنف والموت.

“ أحلم بنهر صغير

يحملني ويمضي

نحو شمال المسرة

لقد تعبت من جنوب الدم.”

لقد تداخلت المؤثرات الشعرية والثقافية في تجربة سميع داود. فهو يكتب قصيدة الشعر الحر أو قصيدة التفعيلة، كما ينتقل أحياناً الى كتابة قصيدة النثر. وتكشف دواوينه الشعرية المبكرة عن هذا التداخل في دواوينه المنشورة عن عنف المتخيل الشعري لديه واولها ديوان “نوارس الموجة الآتية” عام 1974 بالاشتراك مع عدد من شعراء جيله من محافظة واسط، وديوان “ طائر المسافات” عام 2002 وديوان “ مراثي ميزيوتاميا” عام 2010. كما أصدر كتاباً عن المندائية أدباً ومعتقدات، حيث يعدُّ الشاعر الراحل من الدارسين المتميزين للثقافة المندائية، كما أنه شارك في انجاز الكتاب المقدس لدى الصابئة والموسوم “كنز ريا” وغيرها من كتب الطائفة المقدسة.

وفي قصيدة تحمل عنوان “النهر” وهي من الشعر الحر أو التفعيلة يطل الماء في كل مكان:

“ لك الماءُ منطلقاً بالغناء

يسافر في كل جذر نما

في الظلام الكثيف

وفي كل غصن سما”

ويتحول الماء الى انجيل الشاعر المتفرد:

“ لك الماء.. انجيلك المتفرد

ينشئ فيك الهوى

والجمال البهي، يرتل فيك الرغابا”

سميع داود، الشاعر والانسان والمناضل، لم يقف على هامش الحياة ، بل كان دائماً منغمساً في مشاغلها واحلامها وترك بصمته فوق أديمها، ومضى بهدوء وصمت.

عرض مقالات: