اخر الاخبار

ما أتعس أن تجد نفسك بين مجتمع يفقد ذاكرة التاريخ، وينتقي الأفعال والأحداث بمزاجية متقلبة بالنفاق والرياء. وما أقسى أن تقرأ التاريخ بعين حولاء، وبقلب حاقد ومريض، وبعقلٍ مصاب بالتعصب. فالدول المتمدِّنة لا تلغي تاريخها الأبيض والأسود؛ لذلك تضع تماثيل أبطالها وأعدائها جنبًا إلى جنبٍ في ساحاتها؛ لتُذكِّر الناس بتاريخهم وهويتهم الوطنية.

ما أصعب أن تستيقظ صباحاً، وتجد أن ثورة (14 تموز)، قد أُلغيت بقرار رسمي، ويُقال لك علنًا: إنها سقطت من تاريخك بلا رجعة؛ لأنها مجرد جمهورية زائلة، وأن دماء الجمهوريين صارت حلمًا عابرًا؛ فامحُ من ذاكرتك حنين الجمهورية الأولى، واستعض عنها بأعياد الأديان والطوائف والقوميات التي صارت أكبر من الأوطان!

لم يعد لدينا “جمهورية” نحتفل بها! فقد أسقطت عمدًا من تاريخ الوطن؛ فلا عيد لها ولا أفراح، حيث تم محوها من تاريخ العراق، ومن قواميس الاستقلال. لقد قتلنا مدرس التاريخ والوطنية والجغرافيا؛ فاستُبدِل الأصل بالفرع، واستُبدِل زعيم الفقراء بزعيم القصور واللصوص!

في العراق، الاختلاف هو القاعدة، والاتفاق هو الاستثناءً؛ إذ لا نكاد نراه بالعين المجردة؛ حيث التنابز بالألقاب والطوائف رذيلة عراقية راسخة في وجدان المجتمع. نختلف على (ألا نختلف)، ونتفق على (ألا نتفق)، دستور محفور في الثقافة السياسية مجهولة النسب!! لذلك اختلفنا على “ الجمهورية” الأولى، واتفقنا على قتل التاريخ الجميل!  

الأوطان تختلف أو تتفق على زعمائها وثوراتها، مثلما نختلف نحن في التقييم والرأي والحسابات، وهو أمر طبيعي وصحي؛ لكن التقييم ينبغي ألا يخرج من دائرة الموضوعية ويدخل إلى خانة الأيديولوجيا والتعصب والأحقاد؛ فالثورات هي بنات عصرها وظروفها التاريخية. ومن الخطأ محاكمتها في ضوء الحاضر ومتغيراته.

الخطأ الأكبر: أننا ألغينا عطلة (14 تموز 1958) بحجج كثيرة، واجتهادات مختلفة! وقدمنا بديلاً منها عطلة يوم (الثالث من تشرين الأول عام 1932)، وهو استقلال العراق عن الانتداب البريطاني وانضمامه إلى عصبة الأمم المتحدة. وهو أمر لا اعتراض عليه؛ رغم أن الاستقلال العراقي كان شكليًّا من حيث المضمون والتطبيق.

الفرق بين الخروج من الانتداب وتفجير ثورة تموز: أن الأول خرج من الباب بعد أن كان دخوله من الباب خلسة، باتفاقيات وأحلاف ومعاهدات رسَّخت للأجنبي وجودَه الحقيقي؛ بينما كانت “ الجمهورية” حدثًا مِفصليًّا في حياة العراق السياسية، فألغت المعاهدات الأجنبية السرية والعلنية، وأزالت سيطرة الإقطاع، وهيمنة شركات النفط الأجنبية، وأوجدت روحًا وطنية في النفوس، وقرَّبت الفقراءَ لها؛ رغم اشتداد المناقشات بعد ذلك تحت عنوان: (هل كانت انقلابًا أو ثورة؟!).

ما زالت المناقشات مستمرة بالمقارنات، وما يزال الحنين للماضي أقوى، خاصة النظام الملكي، وهو حنين سيكولوجي (بامتياز). فالملكية لم تحقق للناس جنة عدن؛ فلقد كان الفقر في أعلى مستوياته، والأميّة ضاربة في الجذور، والفقراء يعملون عبيدًا في مزارع الإقطاع، وبيوت الطين والصرائف علامة بارزة؛ لكن لم يكن هذا الحنين سببه فكرة “الجمهورية”؛ وإنما هو انعكاس لظلم مَن قاد هذه الجمهوريات بأفعال القتل والاستبداد واللصوصية.

ربما نسمع اليوم مَن يقول لنا -بالفم المليان-: نريد عودة الملَكية؛ لأن الجمهوريات جلبت لنا المصائب والأزمات، والبطش والاستبداد والفساد؛ ولم نحصل منها غير وجع الرأس والضغط النفسي، وأمراض القلق والكآبة المزمنة، والرعب من المجهول القادم، فكره نظام “الجمهورية”، ويأس من ثوارها ورجالها وأحزابها التعيسة!    

ومثلما قد نختلف في نوع النظام، فإننا نختلف أيضًا في حاكم النظام، وقد مرّ على العراق كوكتيل منوّع من الرجال البسطاء والمغامرون واللصوص، فاختلفنا في التقييم والمحبة؛ لكن المشكلة في الشخصية العراقية: أنها مزاجيَّة في الاختيار، لها حنين غريب ومتناقض لكل مَن رحل عنها وغادرها إلى مثواه الأخير، كما هي عاشقة لحكم الفرد الواحد؛ متناقضات في ترمومتر الحب والكره، وفي مؤشرات القبول والرفض!

لذلك أقول: إن معظم الشعب العراقي اليوم مصاب بمرض نفسي اسمه (متلازمة النوستالجيا)؛ أي الحنين إلى الماضي؛ حيث التفكير الانتقائي بانتقاء الإيجابيات وتجاهل السلبيات، والتعميم الزائد، والتفكير العاطفي القطبي، وذلك لتكريس الشعور بالأمان النفسي والراحة.

لم يكن حكام العراق من الملكية إلى عصر الجمهورية (أنبياء) في الأفعال؛ فكلهم قد سقط في فخ حب السلطة والجاه والمال، وأمراض داء العظمة -ولو بنسب متفاوتة-: منهم من أخطأ الهدفَ جهلًا بالسياسة، ومنهم من خانته التجارب والنضوج السياسي. اختلفنا مع الجميع؛ فقتلنا أكثرهم، وعشنا على الذكرى نعض أصابع الندم ونعانق الخسران المبين!

اختلفنا في عبد الكريم قاسم (الحاكم الفقير)؛ لأنه كان فرديًّا ومزاجيًّا، أو لأنه كان في ذلك الوقت عراقيًّا في التفكير، أو شعوبيًّا -كما وصفه البعض -، كما اختلف فيه بعضنا؛ لأنه احتضن فقراء ريف الجنوب في بغداد، فحوَّلها إلى مدينة عشويات وصرائف.

 اختلفنا فيه؛ لكننا لم نَحلّ لغز صورته الرمزية في القمر بعيون الفقراء، ولم نقرأ تاريخ الثورة وواقعها في ذلك الوقت. فالزعيم جنرال عسكري يعيش بين أهوال السلاح، لا بين حدائق الزهور، وهو ابن ثقافة القوة والعسكر، يُعوِزه النضوج السياسي؛ لكنه بمقارنات الحاضر، وترف حكام هذا الزمن، حاكم فقير عشق الفقراء، فلم يعش في قصور اللؤلؤ والمرجان؛ وإنما عاش في غرفة نومٍ بسيطة في وزارة الدفاع، ومات معدمًا، ليس في جيبه إلا تفاليس من الدنانير القديمة الممزَّقة!              

رباط الكلام: الأقسى أن نختلف في جنس الوطن وعلَمِه وألوانه وهويته وعيده الوطني، والتطرف في نقد التاريخ أو إلغائه بالانتقائية، وقتل ما تبقَّى من خزائن التاريخ ونسماته، وأعدم رجالَه رميًا برصاص الحقد والجحود والرياء، وإلغاء أيامه الوطنية بالعقوق؛ فلا يُصبح للوطن تاريخ ميلاد، ولا يُمسي للمواطن هوية وطنية أو جمهورية تثبت عزَّته ونضاله وتضحياته الجسام ومآثره البطولية.

فنحن اليوم لا نحتاج إلى عطل الأديان والطوائف والقوميات التي تتناسل مثل الأرضة؛ لأن عيد الوطن هو الأكبر والأعز، وهو عيد (جمهورية تموز الحب)؛ تاريخ أول شُعلة لحرية العراق، وأول أبجدية سياسية قالت: هنا جمهورية العراق!  

عرض مقالات: