اخر الاخبار

لعل هذا العنوان غريب وصادم. إنه يحاول الإجابة على التالي: لماذا يُهادِن اليوم شعراء معاصرون خارجون من الوجودية والماركسية والقومية والسوريالية وخطابات الحداثة، الظلاميات والرجعيات والسلفية، بل يشتغلون لصالحها جهاراً؟ هل فقدت مصطلحات الظلامية والرجعية والسلفية والحداثة معانيها أم تبدّلت؟ هل يهتدون بتاريخ طويل من الشعر التقليديّ كان الشعراء العرب القدامي فيه، يقدمون على مديح أرباب السلطة وينخرطون في سياساتها حتى وإن تَعارَض ذلك مع قناعاتهم؟

السؤال الأخير لا يقلّ أهمية، ولم تتمّ الإجابة عليه إلا لماماً في الثقافة العربية. وليس من شأننا هنا.

ألا تشكّل هذه المُهادَنة المُذلّة، بالزعم خلافها، نوعا من “الشعوذة”؟ هل هذه هي الكلمة الصحيحة؟

الشعوذة: لم نختر المفردة البديلة “الدجل” لأنّ في االشعوذة طاقة سحرية لعلها تلائم “شعرية” بعض الشعراء الموما إليهم.

 في ويكيبديا تعريف قد يصلح أن يكون مدخلاً بارداً: “الدجّال، يُطلق عليه أيضاً النصّاب أو المحتال أو المشعوذ، هو شخص يمارس الاحتيال أو الخداع لكسب الثقة للحصول على المال أو الشهرة أو غيرها من المزايا من خلال شكل من أشكال التظاهر أو الخداع. المشعوذ هو إشارة إلى الدجّال الذي يمارس الطبّ المشكوك فيه أو أي شخص ليس لديه تدريب طبيّ فعلي”.

تفترض الثقافة العربية والثقافات العالمية أن الشاعر أبعد ما يكون عن تعريف مُقارِب للمشعوذ. يركّز المعجم الإنكليزيّ على الشاعر بصفته شخصاً مبدعاً يتمتع بقدرات تخيّلية وتعبيرية كبيرة حسّاسة خاصة للوسيط (فن الشعر).ومثله المعجم الفرنسية الذي يصفه بالمُكرَّس للشعر ونظم الأبيات والتعبير عن الذات شعرياً، وبصفته فناناً، تلامِس أعماله بقوة الإحساس والمخيلة عبر قيمة جمالية. تغضّ التعريفات كلها للشاعر الراهن النظر عن “الأخلاقيّ” و”المعيار” السلوكي و”المثال الأعلى” والإيطيقي في وصفه. لكنها مجمعة في مكان ما على “النبيل” الأكثر رهافة في الشاعر. فما هو النبيل؟

بعيداً عن الأصل والتطوّرات التاريخية لمفهوم “النبيل” و”النبالة” noble وnoblesse، يضرب النبيل اليوم ثقافياً فيما هو احترام لكرامة الذات وسمّوها وتعاليها وتفوّقها وتميّزها وجودتها، إزاء التفاهة الثقافية والابتذال والبؤس الروحيّ والسطحية وسوء السمعة الصريحة والمبطّنة.

لذا لا تبدو النبالة على الصعيد الثقافيّ، موقفا مؤقتاً، شكلياً، مناسباتناً، مرائياً، قناعاً للمنفعة والتواصلات الاجتماعية، قدر ما هي موقف عميق متأصّل في ذات المثقف، وإن وقعت زلات ومساومات طفيفة لا ينجو منها الكائن الإنسانيّ والفعل البشريّ.

والحال أن السنوات الأخيرة تشهد نمطاً من المثقفين الخارجين من الوجودية والماركسية والقومية والسوريالية، بالأقنعة المفهومية نفسها والمفردات الفكرية ذاتها لكن بالانفراط في أحضان مؤسسات وُصفت بالـ”رجعية” كانوا يناصبونها العداء، وفي خدمة أمراء أغنياء يدفعون لهم ولعوائلهم المعاشات في أغلى المدن الأوربية، ويرأسون التحرير في منابر وصحف وتلفازات ويساومون مموّليها وأحزابها مهما كان لونها وقمعها. كلهم تنكّروا لمنبتهم ولمجيايلهم ضاريين بها وبهم عرض الحائط. ودائماً بالادعاء عكس ذلك. ومن هؤلاء شعراء حداثيون، مما يشكّل مفارقة مزدوجة، يصعب حلها. فالسوريالي العريق انخرط في منبر كان “يحتقره” حتى الخمسين من عمره خائضا فيما يحسبه “لعبة” المصالح والمنفعة التي فهمها أفضل من غيره ومن مرّ قبله. منهم من ذهب لتأييد داعش والحركات الأصولية الأسلاموية الدموية وذهب لمتابعتها فوتوفرافياً ونصّياً في سوريا. كلهم يبدون وقد فهموا الأمر أفضل من معاصريهم. أغلبية المذكورين لم تنبس بشيء عن مأساة غزة.

بين الخطاب اللفظيّ والممارسة، ثمة إحتيال ببساطة. كل قاريء من القراء يمكن أن يقدّم مثلنا مثالاً محدّداَ. ليس الهدف الأمثلة وإن بقيت أمراً مشروعاً، ولكل مقام مقال. الزلات الجسيمة هي القاعدة، مما يقود إلى الاستنتاج أن الخطاب الخارج من تخليط وتناقض وتلاعب كهذا إنما هو ضرب من الشعوذة. وإذا أضفت لذلك بلاغة و”شعرية” الدواوين الصادرة للخارجين من الوجودية والماركسية والقومية والسوريالية وخطاب الحداثة، فإننا أمام “الاحتيال أو الخداع، الموصوف، لكسب الثقة للحصول على المال أو الشهرة أو غيرها من المزايا”.

الفكر التنويريّ الحديث بمختلف مدارسه، يشتغل هنا لديهم لصالح هذه الشعوذة.

عرض مقالات: