اخر الاخبار

تستدعي قراءة التاريخ ومراجعته وعيا بطبيعة ما يتكشف من الاحداث والاخبار، ومن الصراعات التي علقت بها، وما تم تدوينه من خلالها، ليس لبيان موضوعية المدونين أو عدمهم، أو لنزع التاريخ عن الايديولوجيا، أو لإجتراح سياقٍ يكون فيه الحدث التاريخي جزءا من فاعلية النضال الانساني، وتتويجا له، بوصف أن هذا النضال يحمل معه تاريخا موازيا، له مدونوه وشهوده ورواته، مثلما له مراثيه وتراجيدياته..

تبقى ثورة 14 تموز 1958 وإن اختلف حولها الكثيرون “ جزءا من ذلك التاريخ ومن صراعاته وتحولاته، فهي تمثل زمنا عراقيا له أثره الكبير في تقييم تلك الصراعات، مثلما تظل حدثا فارقا في صياغة هوية التاريخ العراقي في عمرانه وخرابه، بتوصيف ابن خلدون الدال على الاشارة الى علاقة هذا “الحدث” بالتحوّل العميق في مفهوم العمران، فهذه الثورة/ الحدث ارتبطت بنضالات اجتماعية وسياسية وثقافية كبيرة، ضد مظاهر الاحتلال البريطاني ومعاهداته واحلافه، وضد مظاهر الجهل والتخلف الذي استغور مفاصل الاجتماع العراقي، وضد مظاهر القهر الاجتماعي والسياسي الذي عمل على تعويم مظاهر الديمقراطية والحرية ليكون في خدمة الاوليغارشية وضمن سيطرتها، حيث فرضت هيمنتها على السوق والمدينة والثروة، وهو ما جعل “الثورة” خيارا مشروعا لتقويض مركزية هذه البنى، ورهانا على صناعة المستقبل، وهذا ما جعلها تحظى  بتأييد شعبي واسع، وبدعم نخبوي وجد في فكرة الثورة أفقا لصياغة عقد اجتماعي جديد، وعقد سياسي يجعل من المشروعية الثورية اكثر تفاعلا مع المشروعية الوطنية..

قد يكون التوصيف الثقافي لفعل الثورة غامضا، بسبب الطبيعة العسكرية لها، وللقوى التي قامت بها، لكن ذلك لم يمنع من أن يرى المثقفون فيها استشرافا للمستقبل، وللمشاركة فيها، والحماس لها عبر وعي شروطها التاريخية والثقافية، لاسيما وأنها حدثت في ظل معطيات سياسية دولية وعربية، فكانت تصعيدا لفاعلية شعارات الاستقلال والحقوق والسيادة، ورفض هيمنة الاستعمارات البريطانية والاميركية، التي فرضت على دول المنطقة سياسات استغلالية ضاغطة، عبر احلاف ومعاهدات، واجراءات اخضعت الى سياساتها كل ما يتعلّق بالحقوق السيادية والاقتصادية، لاسيما معاهدة حلف بغداد/ السنتو، وحلقة الاسترليني البريطانية.

الحديث عن حلم الثورة وعن افقها الانساني كان مشروعا، ومسوغا، إلا أن طبيعتها العسكرية القت عليها نوعا من الظلال الغامضة، لاسيما وأن ما سمّي بحركة الضباط الاحرار لم تكن متجانسة، بين الشيوعيين والقوميين وقوى أخرى، وهذا ما جعل “حديث الحلم” وبناء مؤسسة الثورة مُهددا، وامام تحديات كبيرة، وصعبة، ويحتاج الى كثير من المراجعة والنقد، لأن رومانسية الثورة والشغف الشعبي بها، جعل بعض الجماعات تعمل على الاستفراد، والطموح بالاستيلاء على المؤسسة والحلم والثروة، والى ممارسة نوع من “الفورة الثورية” التي لم تكن موضوعية ومدروسة بعمق، فهذا الحدث الثوري لم يكن خارج السياقات التاريخية في المنطقة أو في العالم، فقد جرى في بيئة سياسية مضطربة، وفي بيئة اجتماعية تعاني من تعقيدات اقتصادية وثقافية تستغورها مشكلات عميقة في التعليم والفقر وفي ادارات الثروة النفطية والنظام الاجتماعي، فضلا عن مظاهر العنف الطبقي جرّاء سيطرة الاقطاعيين على الاراضي الكبيرة، حيث تسببت هذه السيطرة على هجرة كثير من الفلاحين الى  المدن، مما اسهم في ايجاد صراعات ضاغطة على المدن، وعلى تغيير مظاهرها في العمران الثقافي والاجتماعي..

الثورة وحلم التأسيس الديمقراطي

بقدر ما كان فعل الثورة متسقا مع الحلم الوطني ورغبة الجمهور بالتغيير، فإن العمل على تأسيس مشروع الدولة الوطنية لم يكن بذات القوة، فظل عائما، ومتأخرا بسبب نشوء الصراعات الداخلية داخل “حركة الضباط الاحرار” وكذلك بين عدد من الاحزاب الوطنية، وهو ما اسهم في تعويق القيام بخطوات عملية لحماية الثورة من اعدائها، ولقيام حكم دستوري ديمقراطي وبرلماني، وانجاز كل متطلبات الاستقلال الناجز، على انقاض الحكم الملكي الذي كان ضعيفا وهشا في التمثيل السياسي والسيادي لمشروعية الدولة الوطنية..

ان نمو وتضخم ظاهرة العسكرة في الدولة العراقية كانت من اكثر العلامات التي رافقت مظاهر الخلل في النمو السياسي، وربما اسهمت في الحدّ من التطلعات الديمقراطية، فتاريخ العنف والمركزية في “الدولة العراقية” منذ نشوئهما كانا حاضرين في ممارسات تلك العسكرة، وعبر احداث معروفة ارتبطت بصور ذلك العنف، بدءا من قمع انتفاضة الاثوريين في سمّيل والعشائر العراقية في الجنوب، وصولا الى انقلاب الجنرال بكر صدقي عام 1936 والانقلاب الضدي بعد اقل من سنة، فضلا عن احداث حركة 1941 والتي ارتبط بعضها بالتدخلات الاجنبية في العراق وعلاقة البعض من سياسيي هذه الحركة وحتى العسكر بجهات وتحالفات دولية معروفة آنذاك.

اين دور القوى السياسية الوطنية لم يكن غائبا، لكنه كان محاصرا، فرغم عنف السلطة ومؤسستها الامنية، والدور البريطاني داخلها، إلّا أنها كانت مؤشرا على حيوية الحركة الوطنية وقيادة الشيوعيين لها، فكانت انتفاضة 1948 واسقاط معاهدة بورتسموث دليلا على قوتها في الاجتماع الوطني السياسي والشعبي. واحسب أن اعدام قادة الحزب الشيوعي العراقي في 14 شباط 1949 دليل ساطع على هذا العنف ضد القوى الوطنية الرافضة لسياسات الاستعمار والسلطة العميلة وللعصبة الصهيونية التي احتلت فلسطين عام 1948

كما أن الانتفاضات الشعبية الوطنية في 1952 و 1954 و1956 من المظاهر التي كان الحراك الوطني فيها حاضرا، حيث تتوّج عام 1957 بتشكيل “ جبهة الاتحاد الوطني” التي ضمت عددا من الاحزاب السياسية، وبقيادات وطنية، قابلها صعود سريع ل”حركة الضباط الاحرار” حيث لعبت هذه التشكلات دورا في صناعة مشروع الثورة، رغم أن القوى العسكرية فرضت ارادتها في السياق كأمر واقع، وحددت المشاركة المدنية فيها، وهو من الاسباب العميقة التي وضعت الثورة امام تحديات بنيوية خطيرة، فمع اجراءات الزعيم عبد الكريم قاسم الثورية في تأطير الحلم الثوري، وفي الحرص على المشاركة المدنية في صياغته، إلّا أن ماحدث خلال عام 1961 من تغيرات غامضة كرست معها قوة العسكرة التي كانت تعيش صراعا عميقا، تسبب بعد سنتين بإحداث إنقلاب عسكري اسود عام 1963 كشفت فيه القوى الشوفينية، ونماذجها العسكرية عن عنف مفرط، وعن كراهية للديمقراطية؛ ادّت الى اجهاض حلم الثورة، والى قتل كثير من رموز وقادة الحركة الوطنية، ومنهم من كان محسوبا على المؤسسة العسكرية وعلى حركة الضباط الاحرار.

 العسكرة وحسابات الايديولوجيا

ان الحاجة الى مراجعة “الثورة” بعد مرور 66 عاما على اندلاعها يتطلب وعيا نقديا، مثلما يتطلب موضوعية عقلانية في التعاطي مع اسباب الثورة، ومع اسباب فشلها، ومن هي القوى الفاعلة فيها، والقوى التي اجهضتها؟ وماهي العوامل الخارجية والداخلية التي كانت جزءا من هذا الاجهاض؟

هذه الاسئلة وغيرها كشف لنا كثيرا من المسكوت عنه، وعن طبيعة البنية الداخلية للحكم الذي حمل وزر “الثورة” وتصدّى لتحدياتها، وعن الهنات التي وقع فيها، والتي كانت تتطلب حسما ثوريا، ومعالجة “تطهيرية” لمنع صعود القوى المضادة للثورة، والتي عملت خلال سنيها على القيام بمحاولات ذات طابع عسكري للانقلاب على الثورة، فضلا عن القيام باعمال شغب وتمرد في عدد من المدن العراقية، عمدت على تشويه الثورة واهدافها، وعلى اصطناع مواقف لها بعد قومي شوفيني وطائفي عنصري، مقابل ما قامت به في مرحلة لاحقة، في صناعة محاور وتحالفات داخلية وخارجية نتج عنها الانقلاب الدموي في شباط 1963، الذي اسهم في صناعة الدولة الفاشية التي امتدت الى عام 2003 بنظامها العسكري، وبعصابيتها التي كرست صور المستبد والطاغية والقبيلة وثقافة المعسكر والالدلجة العنصرية، وهي سمات ما كانت لتحدث لولا الرثاثة والشعبوية التي وقعت بها  الثورة، بما فيها البطء بصياغة الدستور، واقامة مؤسساته، وتحييد المؤسسة العسكرية، واشراك القوى المدنية في صياغة المجال العام لمرحلة ما بعد الثورة..

لقد كانت ثورة تموز 1958 حلما، وشغفا بحياة جديدة، وتوجّها لتأسيس دولة ذات هوية جمهورية، تقوم على العدالة الاجتماعية والمساواة، لكن ما جرى، جعل من هذا الحلم امام تعقيدات اجرائية، على مستوى تكامل مؤسسات الدولة، أو على مستوى معالجة الاخطاء التي وقعت فيها، بما فيها اخطاء توزيع المسؤليات الحساسة على قوى تنتمي ايديولوجيا الى القوى اللادولتية، حيث عملت هذه القوى على التحالف مع الخارج، وعبر اصطناع اصطفافات مريبة اسهمت في احداث انشاق في المؤسسات العسكرية والامنية..

لقد عملت الثورة على تحقيق طموحات مدنية كبيرة مثل العمل على صدور قانون الجمعيات عام 1961 حيث اجيزت بحدود 700 جمعية مدنية، والقانون رقم 80 لعام 1961 الخاصة بتحرير الثروة النفطية، والتخطيط لإطلاق قانون للأحزاب، ولإصدار الصحف، بهدف دعم حريات الرأي والتعبير والنشاط النقابي والسياسي، فضلا عن قانون الاحوال الشخصية، وهو اكثر القوانين تقدما في العالم ضامنا حقوق المرأة في حياتها الشخصية والعائلية والاجتماعية، والعمل على المشاركة في انشاء منظمة اوبك النفطية، لكن تعطيل البناء المؤسسي الديمقراطي والتنظيمي، والابقاء على طابع العسكرة في عالم التحالفات والحرب الباردة، واتباع سياسة “الحياد الايجابي” جعل من الواقع العراقي مفتوحا امام تدخلات فاضحة للدول الاستعمارية، حيث وجدت في الجماعة الانقلابية “حصان طروادة” لاغتيال الثورة واجهاض مشروعها الوطني..

عرض مقالات: