اخر الاخبار

اعتدنا نحن العراقيين أن نترقب عند قدوم شهر تموز من كل عام حصول أمر أو واقعة ما، وفي الان نفسه نتهيأ عادة لنشهد احتفاء شعبيا في الرابع عشر منه. ولقد حفظنا نحن العراقيين عن ظهر قلب هذا التاريخ وعددناه عيدا وطنيا لا غنى عنه، لأن فيه انتصرت إرادة شعبنا على سياسات الاستعمار والانتداب فكانت ثورة 1958 فاتحة عهد جمهوري لم يشهده العراق من قبل. وعلى الرغم من تبدل الأنظمة وتخالف الحكومات، فإننا نحن العراقيين لم ننقطع عن احياء ذكرى هذه الثورة المجيدة. وأية محاولة من لدن الانظمة والحكومات المتعاقبة - وبغض النظر عن طبيعتها السياسة والايديولوجية - في استحداث تاريخ آخر ليكون عيدا وطنيا فإنها عادة ما تبوء بالفشل.

ذلك أن أهمية الرابع عشر من تموز لا تعادلها أهمية أية ثورة أو انتفاضة أو انقلاب.  لا شك في أن الدول تتباهى كلما تقادم العهد على مناسباتها الوطنية كما أن الأمم تحترم انجازات ثوارها وتضحيات شهدائها، وينبع هذا الاحترام من إحساسها بقيمة ما تريده شعوبها وأحقيتها في أن تختار مناسباتها بنفسها.

بالنسبة إلى حالتنا العراقية، فإن الرابع عشر من تموز لا اختلاف حوله على المستوى الشعبي ولكن الامر ليس كذلك على المستوى الرسمي. وتختلف الأسباب لكن المؤدى واحد وهو محاولة الالتفاف على مشاعر الأغلبية الشعبية وتحييد فاعليتها خشية أن تستذكر جموعها رجالا ونساء ما كان قد حصل فيستيقظ فيها العزم على تحقيق ما ينبغي أن يكون حاصلا.

بالطبع ليس أمام شعب لا تكترث حكوماته بخياراته ولا تعبأ برأيه سوى أن يتقبل الأمر باللااكتراث نفسه. وها نحن نرى الأيام التي اختيرت في ما سبق أعيادا وطينة تأتي وتذهب، والرابع عشر من تموز باق لا يُقهر. ومن تلك الأيام 17 تموز الذي كان خلاصة تدابير سابقة فيها من التواطؤ ما ليس للشعب دخل فيه. ويوم 23 آب يوم تتويج الملك فيصل الأول على العراق وآخر الايام 3 تشرين الاول وأتى الاعلان عنه عابرا وذهب ادراج الرياح باهتا. ولقد كانت الدعوى في اختياره عيدا تتمثل في دخول العراق عصبة الأمم مع أن الكل يعلم أنه دخول مشروط بدخول معاهدة عام 1930 المذلة مع بريطانيا حيز التنفيذ، وهي المعاهدة التي رفضتها القوى الوطنية العراقية وكافحت من أجل اسقاطها ليكون الاستقلال منزوع المحتوى أصلا بهذه المعاهدة التي فُرضت بمناورات المحتلين وأذنابهم عبر تقريب المعارضة الوطنية واسناد الحكومة الى بعض فئاتها، ولكن تلك المناورات لم تنطل على أحرار العراق فلقد اسقطوا بكفاحهم خمس حكومات متتالية ما بين الانتهاء من الاتفاق على المعاهدة وبين دخول العراق الى عصبة الامم والذي بموجبه سرت تلك المعاهدة المذلة.

من هنا نقول إن إرادة الشعب التي قَهرت المستعمر فيما مضى هي نفسها إرادة الشعب الذي يقهر من يحاول أن يلتف عليه ويقف في طريق تطلعاته.

والأعياد لا تأتي جزافا وما يجعل أي يوم من الأيام عيداً وطنيا هو ما يؤججه في النفوس من مشاعر خاصة، يُعبر عنها بطقوس لا تمارس في أي يوم غيره. وهكذا كانت أعياد السومريين والبابليين والأشوريين أعيادا صنعها الشعب نفسه وحدد شكل الاحتفال بها وابتكر الطقوس المرافقة لها كعيد انانا الذي فيه يحتفل البابليون بالحصاد والخصوبة وتقام فيه احتفاليات مقدسة وكذلك عيد اكيتو الذي يحتفل فيه بالقمر والشمس والربيع ويستمر لمدة اثني عشر يوما. ومن حسن الحظ أن الأعياد التي تختارها الشعوب هي التي تبقى على مر الدهور والحقب، أما الأعياد التي يختارها الأقوياء السلطويون - حكاما كانوا أم برلمانيين - فمصيرها الذواء والتلاشي.

إن الأعياد الوطنية لا تُقسر قسرا كما أن الترغيب والترهيب لا ينفعان في ترسيخها، وإلا كيف نفسر استمرار أعياد وطنية في بلدان تبدلت أنظمتها مراراً ولم يتبدل يومها الوطني خذ مثلا اليوم الوطني الفرنسي في 14 يوليو وفيه حدثت واقعة شهدت على وحدة الشعب الفرنسي، ومثله اليوم الوطني للولايات المتحدة الأمريكية في الرابع من يوليو، والعيد الوطني الروسي في الرابع من نوفمبر الذي هو ذكرى دحر الشعب الروسي للبولنديين عام 1612.

ولقد قاد شعبنا الغيور في الرابع عشر من تموز 1958 نفسه بنفسه، رافضا أن يبيت على ضيم المستعمر فما خشي بطش حكام متخاذلين ولا طأطأ رأسه تذللا لأجنبي ولا ضعف ولا هادن ولا نكث ولا انخدع؛ بل شمر عن ساعديه عازما على استرداد حقوقه مضحيا في سبيل وطنه نافضا عنه سباته.

وبنهوض الوطن ينهض العراقيون كما نهض أسلافهم ضد كل من يخونهم ويستغلهم وينهب ثرواتهم. وعلى الرغم مما رافق ثورة 1958 وما تلاها من مصاعب؛ فإنها جاءت بالمكاسب والانجازات التي لا تخطئها عين المنصف الحصيف ولا تغيب عن أذهان الصادقين الأمناء.

هي مكاسب عظيمة لان منافعها ما زالت الى اليوم تترى منذ لحظة الانبثاق الاولى في 14 تموز والى اليوم وفي مقدمة تلك المكاسب نظام الحكم الجمهوري.

وحري بمناسبة بهذا العظم والشموخ وهذه المعاني والسمات أن تكون لنا ولأجيالنا القادمة عيدا نحتفي به وطنيا ونستذكره كوننا حققنا فيه انجازات يصعب الاحاطة بها في هذا المقال ولأن فيها تتوكد هويتنا وتشمخ أصالتنا بامتداد حضاري عريق. فكيف بعد ذلك ننسى تموزنا عيدا ونحن نحتفي به مع أنفسنا افرادا قبل أن نحتفي به ونتفاعل معه جموعا شعبية؟!  أ يكون غير تموز بديلا عن تموز !! الا اذا كنا قد قبلنا أن ننسخ عراقيتنا بعراقية اخرى نصفها تابع ونصفها مشلول ؟ وكيف نقبل بغير تموز عيدا وهو معنا يعيش بيننا ويمشي في عروقنا نابضا بالحياة ؟ وهل لنا أن نستغني عن تموز عيدا وننسى أن 30 حزيران التي منها انطلقت شرارة ثورة العشرين تتلاقى حتما وبُدا بشرارة ثورة الرابع عشر من تموز لتستمرا بعد ذلك كل واحدة تكمل الأخرى. وما الغاية من عيد ينسينا وحدة أمجاد حضارتنا التي لا تفصل بينها العقود والقرون بل هو تاريخ يمتد إلى الحاضر ويتجاوزه الى الغد القادم؟

إن قبولنا بغير تموز عيدا يعني أننا نسينا ذاكرتنا الجمعية كما أن تجاهلنا الرابع عشر من تموز يعني أننا قبلنا أن نسقط قيمة رمزية من اعتباراتنا. فتموز ثورة جذرية عبّرت عن طموحات الشعب العراقي وآماله. وتموز حركة اصلاحية وانتفاضة سياسية وثورة شعبية حقيقية اشتركت فيها كل طوائف الشعب ومكوناته ناشدة التغيير الذي يصب في صالح شعبنا ويحقق له مصالحه من التعليم والصحة والضمان الاجتماعي الى الزراعة والمحاكم والخدمات العامة وتحرير الثروات الوطنية من أيدي المحتكرين وغيرها من التطلعات التي ما كان شعبنا يبغي بلوغها بطريقة دموية أو فاشستية عنيفة بل بطريقة تموزية تجمع التحرك العسكري بالوعي السياسي الوطني؛ المنبثق من فكر جبهة الاتحاد الوطني وتوسيع نطاق الانتفاض الشعبي الى حدود الاعتراف الدولي.

لقد قوضت ثورة الرابع عشر 1958 الفساد والفاسدين حكومة ومجلس نواب ودستورا زائفا ونظاما بوليسيا على حد رأي الرصافي القائل( علم ودستور ومجلس أمة ...كل عن المعنى الصحيح محرف )، ورفضت بكل أشكال الرفض احتكار السلطة والتلاعب بمقدرات الشعب بحجة ( الديمقراطية الملكية ) المزعومة، فانتقلت بالعراق من بلد تابع للأحلاف الاجنبية ومعسكر غربي إلى بلد جمهوري مستقل غير منحاز. وما هو مؤكد أن تاريخ الرابع عشر من تموز لن يُنسى بل هو يزداد رسوخا وتناسلا ثوريا؛ ثورة عن ثورة وانتفاضة عن انتفاضة. وآخر نسلها وليس الأخير ثورة تشرين، ثورة( نريد وطنا )

إذن لا غنى لنا ولا بديل عندنا لـ 14 تموز، نحتفي به سنويا عيدا وطنيا، بكل ما يعنيه الاحتفاء من دلالات اجتماعية وسياسية وفكرية واقتصادية وعسكرية.

عرض مقالات: