اخر الاخبار

حين تقع العين على كلمة “افتراس” تتبادر الى الذهن في الحال صور النهش والالتهام اللذين تمارسهما الضواري، فيما الدم يقطر من انيابها واشداقها. لكن هذه الكلمة بالذات هي ما وجد كاتبو الورقة البحثية التي تحمل العنوان اعلاه (مع عبارة ملحقة: الاستملاك الطائفي لماضي العراق) انها تعبر بأمانة عن واقع التعامل مع التراث الثقافي في البلد اليوم.

لقد انجزت الورقة  في المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتام هاوس) في لندن، وصدرت عنه سنة 2022. الا انها لم تحظ للأسف بما تستحق من اهتمام.

في أدناه عرض مكثف لأبرز ما عالجت من قضايا وما  خرجت به من خلاصات.

عن الافتراس وأبعاده

الافتراس ـ حسب الورقة ـ هو الاستغلال المدمر للموارد الثقافية لأغراض سياسية، وهو يشمل الاستحواذ على تلك الموارد ومصادرتها، وإعادة هيكلة المواقع الثقافية والدينية والمدن والبلدات بأكملها من قبل المؤسسات الفرعية التي استولت عليها المصالح الحزبية (مثل عمليات الترميم التي لا تراعي الطابع الثقافي والبعد الزمني الإنساني) فضلاً عن الوصاية على مدينة سامراء ذات الأهمية التاريخية، وما يماثلها من أعمال في مرقد النبي ذو الكفل الأثري في محافظة بابل. بل ويتجاوز الاستغلال ذلك الى إعادة كتابة التاريخ من قبل النخب الطائفية النافذة في البلاد بعد 2003.

يمتاز العراق بامتلاكه اكثر من 1500 موقع أثري، وما يفوق ذلك بكثير من المحفوظات والمخطوطات والآثار الثقافية واللوحات الفنية ذات الأهمية الوطنية. ومع هذا يعاني البلد من خسارة ثقافية غير مسبوقة في الإرث المادي، كذلك في  الإرث المعنوي الذي هو تجسيد لهويات الناس وتكريس اعتزازهم بتاريخهم الذي تآكل هو الآخر وتصدع. وهذا ليس بسبب الدكتاتورية والصراعات فحسب، إنما بسبب نظام المحاصصة الذي فرضه الاحتلال بتقسيمه السلطة على أساس تسييس الهويات الثقافية المتنوعة في البلاد وتمزيقها. ومما فاقم المشكلة أن التراث الثقافي أصبح مورداً إقتصادياً وسياسياً، وغدا بالتالي محط تنافس محموم بين الجماعات السياسية والدينية. فالموارد ببساطة لا تذهب للدولة، وبالمحصلة للشعب، إنما هي غنائم تذهب إلى مؤسسات فرعية وغالبا يتعذر الوثوق بتلك المؤسسات التي تتحكم بها المصالح الحزبية.

البدايات وما تلاها

وقد بدأت عملية الإفتراس الثقافي في اجواء عدم الاستقرار التي اعقبت اندلاع  الإنتفاضات غداة حرب الخليج 1991، عندما تعرضت متاحف العراق في محافظات الجنوب للنهب من قبل السراق وعصابات الجريمة المنظمة، وغمرت الآلاف من القطع الآثارية الأسواق الدولية للآثار. كما دمرت العقوبات الدولية التي فُرضت منذ أوائل التسعينات حتى عام 2003 التراث الثقافي في العراق، بفعل انخفاض تمويل الدولة لحمايته وحفظه وترويجه إلى مستويات لم يسبق لها مثيل. وكان من عواقب ذلك مغادرة خبراء التراث البلاد، بعد ان لم يعودوا قادرين على  اكتشاف المزيد، أو الترويج للتراث الموجود وإظهاره للعالم.

وبعد 2003 اصبحت الهجمات المسلحة على معالم التراث الثقافي سمة مشتركة للمشهدين السياسي والأمني، ودفعت تلك الاعتداءات على المجموعات والرموز الدينية، مثل مجزرة كنيسة سيدة النجاة في بغداد عام 2010 قطاعات كبيرة من الطوائف المسيحية العراقية إلى الفرار من البلاد.

 واعتباراً من عام 2014 شنّ تنظيم داعش هجمات على أماكن العبادة والمقابر والمتاحف في مدينة الموصل، وعلى الرموز الأخرى للمجموعات العرقية والدينية والثقافية في البلاد. وكان تنظيم داعش يسعى بذلك طبعا إلى إعادة تشكيل العراق بما يتماشى مع أجندته كتنظيم أصولي.

شهادة تنقل الورقة عن ناشط بهائي قوله:

“العراق بلدنا، نحن عراقيون وهذا منبتُنا، لقد تعرضت طائفتنا للهجوم باستمرار ولم يتم توفير الحماية لنا، الجماعات الدينية المتطرفة تعتبرنا زنادقة، لقد اضطرّ العديد منا إلى الإختفاء عن الساحة ومعظمنا غادر البلاد، وعائلاتنا الآن مشتتة في بلدان مختلفة، إذ يُنظر إلينا من خلال معتقدنا وليس كمواطنين عراقيين”.

لقد أدّت عملية محو التراث الثقافي في شكلها المتطرف إلى تسوية مواقع أثرية ودينية وثقافية بأكملها بالأرض، فضلاً  عن ارتكاب جرائم بحق الأيزيديين والتركمان الشيعة وكذلك بحق السكان العرب الشيعة والسنة.

ومن المفارقات انه على الرغم من السياسة الإقصائية ثقافياً التي مارسها تنظيم داعش، فانه استغل الآثار العراقية كمصدر للدخل. ولا يزال جزء كبير من التراث المادي وغير المادي في المحافظات المتضررة، في حالة حطام.

ولئن سعت الجماعات المسلحة متمثلة بداعش والقاعدة إلى إعادة تشكيل المشهد الثقافي وبالتالي السياسي في العراق عن طريق العنف، فإن افتراس التراث من قبل النخب السياسية العراقية جرى ايضاً في ظل الحماية القانونية من جانب الدولة.

واتخذ هذا الإفتراس شكل الإستملاك التدريجي وإعادة التنظيم، إذ واصلت الأحزاب السياسية الطائفية في البلاد إجراء التغييرات في بابل وبغداد وأربيل وسامراء، بهدف إقامة إقطاعيات عرقية ودينية مرسّمة الحدود علناً. وبهذا المعنى فإن السيطرة على الثروات الثقافية وإدماجها في الروايات الطائفية المتنافسة، هي في حد ذاتها أشكال من العنف الرمزي، ترتبط بإقامة حدود متباينة عن قصد بين التاريخ المشترك والمجتمعات أصلاً.

الطائفية المدمرة

وتبين الورقة في العموم ان “المجتمعات العراقية” (وتعني الاطياف القومية والدينية والمذهبية المتنوعة) تعرضت للدمار بسبب الطائفية ونتائجها التي لا تعد ولا تحصى. وان التراث الثقافي وقع ضحية لهذه المشكلات، وكان اداة لها في الوقت عينه، مع تدخلات مسيّسة تضر بالتماسك الاجتماعي والعلاقات المجتمعية.

لقد أدت سياسة المحاصصة داخل الوكالات الحكومية العراقية إلى السعى للسيطرة على الوزرات من اجل استغلال مواردها. وما يعنينا هنا من تلك الوزارات، وزارة السياحة والآثار (وقبلها وبعدها وزارة الثقافة والسياحة والآثار)، التي مُنحت السيطرة عليها لمختلف الأحزاب السياسية المتعاقبة الشيعية والسنية والكردية.

بالإضافة إلى الإستغلال الممنهج للموارد من جانب تلك الأحزاب، تم أيضا تهميش دور الوزارة مراراً، وتجاهل دورها كمؤسسة مهمة فاعلة، وأدت مخصصات الميزانية غير الكافية لاسيما لوزارة الثقافة والسياحة والآثار، إلى تقليص القدرة على تلبية إحتياجات العراق بشأن التراث الثقافي.

وينطوي استغلال الموارد من الممتلكات الثقافية على الافادة المالية من عقود توسيع مواقع التراث وترميمها، وقد افادت المؤسسات السياسية الدينية بالفعل من الفرص في هذا المجال. وتشير الورقة في هذا الشأن الى الفساد المستشري في مكاتب الاوقاف الدينية المدعومة  من طرف الأحزاب السياسية المهيمنة.

تحديات

إن أهم التحديات التي يواجهها التراث الثقافي العراقي اليوم، هو عدم توفر التمويل الضروري للحفاظ على الآثار والموروث التاريخي والثقافي وإعادة تطويرها والافادة منها. يضاف اليه  تحدي  العوامل البيئية وآثارها على المعالم والمباني، وتحدي إنعدام الإستقرار والأمن وما يؤدي إليه من تدمير للموروث العمراني، وتحدي الحاجة إلى توظيف حراس أمن للمواقع الاثرية والتراثية. وأخيرا ـ وهذا هو الأهم ـ تحدي النظام السياسي القائم على المحاصصة.

احياء روح الموصل

من جانب آخر تلقى التراث الثقافي العراقي في السنوات الماضية، عبر اليونسكو،  تمويلاً لا يستهان به من الإمارات العربية المتحدة والاتحاد الاوربي ودول اخرى، بهدف اعادة بناء بعضٍ من اهم معالم مدينة الموصل الثقافية، التي دمرها تنظيم داعش.

بفضل هذا الدعم المهم وانطلاقا منه قدمت منظمة اليونسكو مبادرة “إحياء روح الموصل” الرامية الى إعادة بناء جامع النوري الكبير ومئذنته الحدباء، وترميم كنيستين، ومشاريع ترميم واسعة اخرى، اضيفت اليها لاحقا اعادة انشاء بعض البيوت التاريخية في مدينة البصرة.

ولكن تبين في ما بعد أن المشروع محفوف بالمشاكل، وبالفعل تعرض الى إنتقاد واسع في العراق لتجاهله التاريخ المعماري الغني لمدينة الموصل، ولعدم إشراك الخبرات العراقية والمؤسسات المهنية فيه، ومنها نقابة  المهندسين التي تضم أكثر من مائتي ألف منتسب.

وفي النهاية قدمت مبادرة الاحياء المذكورة  فائدة محدودة، خاصة وانها  تعاملت مع هيئة الآثار والتراث العراقية  والمؤسسات المحلية الاخرى ذات العلاقة باعتبارها مجرد جهات ميسِّرة بدلاً من كونها شريكاً فاعلاً.

المحاصصة وراء المصاعب

وفي شأن المبادرات المحلية داخل العراق لحماية التراث، تشير الورقة الى الدعوات المتزايدة من قبل خبراء التراث العراقي، بمن فيهم الأكاديميون، لتوحيد سياسة التراث في جميع أنحاء البلاد. غير إن هذا ـ كما تضيف الورقة ـ أمر صعب للغاية امام واقع التشظي السياسي المؤسسي والمحاصصة. فضلاً عن ان إضفاء الطابع الطائفي على جزء كبير من التراث يُصعّب الأمر، حيث يُنظر إلى التراث العباسي مثلا على إنه ليس عراقياً، وإنما يخص جماعة عراقية معينة!

خلاصات

لعل أبرز ما أمكن رصده في الورقة البحثية، من خلال كل ما سبق، هو التالي:

  • إن أهم عامل يتيح الافتراس الثقافي ويكرسه هو نظام المحاصصة الطائفية والاثنية المعتمد في حكم البلاد وادارتها، وهو نظام تقاسم السلطة بحسب التقسيمات والحصص الطائفية والقومية. وان انقاذ التراث الثقافي لا يبدو ممكنا ما بقيت المحاصصة مكرسة ومطبقة.
  • ان إضفاء الطابع الطائفي على التراث الثقافي يؤدي إلى تكريسه لتحقيق المكاسب الخاصة، والحد من دوره كمنفعة عامة متاحة لجميع العراقيين، كما يؤدي الى تفاقم التوترات الاجتماعية في جميع أنحاء البلاد.
  • ان لا سبيل للتحكم في ما يجري على الساحة التراثية، ما لم يتم توحيد السياسات الخاصة بميدان التراث بما يخدم المصلحة العامة، مع تأمين الحماية للهيئة العامة للآثار والتراث وتطويرها وتمكينها ماليا وقانونيا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

* عن “الطريق الثقافي” - العدد 142

عرض مقالات: