اخر الاخبار

نعرف طبعاً أن السياسة في السينما كانت موجودة ومعترفاً بها وربما منذ السنوات الأولى التي وجد فيها “الفن السابع” وراح يكتسب شعبيته وجماهيريته بشكل لم يسبق لأي فن من الفنون أن فعله. لكننا نعرف كذلك أن تعبير “سينما سياسية” كعنوان لنوع سينمائي محدد كان عليه أن ينتظر نحو قرن من الزمن قبل أن يفرض حضوره. ولعل في مقدورنا اليوم أن نقول، من منظور تاريخي على الأقل، إن لذلك الحضور موعداً محدداً هو عام 1969 ومكاناً محدداً هو دورة ذلك العام من مهرجان “كان” السينمائي الذي يعقد عادة في تلك المدينة الفرنسية الساحلية الجميلة على الشاطئ الجنوبي الشرقي لفرنسا. بل أكثر من ذلك فعلى رغم أن أفلاماً سياسية عدة عرضت ونجحت في تلك الدورة، فإن ثمة عنوان فيلم محدد يخطر بسرعة على البال ليعتبر دائماً الفيلم – العلامة على ولادة ما لذلك النوع السينمائي “الجديد” وهو فيلم “زد” للسينمائي الفرنسي من أصول يونانية كوستا غافراس والذي ساهمت جزائر ذلك الزمن في إنتاجه يوم كانت الجزائر رائدة في حراك كبير طاول سينما القضايا الإنسانية الكبرى في العالم. ولئن تفرد “زد” وبرز بين أفلام عدة فإن ظروفاً عدة هيأته لذلك. ومعظمها مرتبط على أية حال بما كان قد حدث في العام الفائت وامتدت تأثيراته إلى دورة 1968 من المهرجان الكاني نفسه لتعود وتلقي ظلها على الدورة التالية التي نحن في صددها.

ولادة سياسة سينمائية

ففي ذلك الحين، أي منذ ربيع عام 1968، كانت الانتفاضات الشبابية والطلابية تعم مدينة باريس بل مدناً عدة ومتفرقة في العالم أجمع وفي معظم قارات ذلك العالم، وبشكل لم يسبق له مثيل حتى في “الكومونة الباريسية” وثورات 1848 في شتى أنحاء أوروبا. وكان كثر من كبار مثقفي فرنسا وغيرها قد أعلنوا مساندتهم ذلك الحراك وبخاصة في أوساط السينمائيين. ومن هنا انتقلت العدوى الثورية إلى مهرجان كان تحت رعاية أقطاب الموجة الجديدة الفرنسية ولا سيما منهم فرنسوا تروفو وجان لوك غودار ورفاقهما من شبان التمرد والتجديد وكانت النتيجة أن توقف المهرجان، إذ تضامن سينمائيو العالم الحاضرون مع السينمائيين الفرنسيين وألغيت فعاليات تلك الدورة. ومن هنا كان من الطبيعي للعام التالي 1969 أن يتأثر بذلك المناخ كله. وبخاصة أن العالم كان يشهد اضطرابات سياسية واجتماعية ما كان يمكنها إلا أن تفعل فعلها. وهكذا غلبت السينما المفعمة بالسياسة على كل ما عداها ووصل التأثير إلى النتائج التي تمخض عنها ختام المهرجان. فإذا بالجائزة الكبرى تذهب إلى فيلم احتجاج بريطاني هو “إذا” للندسي أندرسون المعروف كأحد أقطاب السينما الحرة البريطانية، وجائزة المحكمين الكبرى إلى فيلم “أدالين” للسويدي بو وايدبرغ، وهو يتحدث عن ثورة عمالية شهدتها السويد عام 1931، وجائزة أفضل تمثيل نسائي إلى الفنانة البريطانية المنشقة دائماً فانيسا ردغريف عن دورها في فيلم “إيزادورا” لكارل رايس وهو عن راقصة مدهشة – هي إيزادورا دانكان - كانت من دعاة الثورة والنضال خلال الثلث الأول من القرن العشرين، فيما حصل جان لوي ترينتينيان على جائزة أفضل تمثيل رجالي عن دوره كمحقق غاضب ونزيه في فيلم “زد” الذي أشرنا إليه أعلاه. وهو الفيلم نفسه الذي نال جائزة لجنة التحكيم الخاصة فيما نال المتمرد البرازيلي المخرج غلاوبر روشا – وهو أحد مؤسسي وأقطاب السينما الجديدة في البرازيل -، على جائزة الإخراج عن فيلمه “أنطونيو داس مورتس”؛ بل حتى نال الفيلم الأميركي “إيزي رايدر” لدنيس هوبر جائزة العمل الأول هو الذي كان يعتبر في حد ذاته ثورة حقيقية في السينما بل حتى المجتمع الأميركيين. فهل في إمكان أحد أن يجد في تاريخ السينما مثل هذا القدر من الأفلام السياسية الثورية، مجموعاً في أي مهرجان من المهرجانات.

ضجة في مؤتمر صحافي

لا شك أن الأمر يبدو حتى يومنا هذا عجيباً. ومع ذلك كان الاهتمام الأكبر من نصيب “زد”. وحتى في هذا المجال، لئن كان الفنان والمغني الكبير الفرنسي من أصول إيطالية إيف مونتان قد أخفق في الحصول هو شخصياً على أية جائزة فإن رضاه كان كبيراً عن مجمل الجوائز ولا سيما تلك التي حققها “زد” فهو في نهاية الأمر بطل ذلك الفيلم. هو نفسه زد الذي أعار عنوان الفيلم اللقب الذي كان معروفاً به البطل الذي يروي الفيلم حكايته. كما أنه كان هو وراء دخول الجزائريين على خط المساهمة في إنتاج الفليم يوم لم يكن كوستا غافراس نفسه اسماً كبيراً في عالم السينما وضمانة يستند إليها أي عمل. كوستا غافراس سيصبح كذلك منذ عرض “زد” في دورة “كان” لعام 1969. بل وبشكل أكثر تحديداً منذ انعقاد المؤتمر الصحافي الخاص بالفيلم بعد عرضه الأول هناك. وربما إلى حد ما بفضل ما حدث في ذلك المؤتمر الصحافي. ما حدث حينها كان بسيطاً، على أية حال، وكان يمكنه أن يظل كذلك ويمر مرور الكرام على شكل سؤال وجواب بين صحافي فضولي يبدو أنه كان يتوخى الاستفزاز وبين مخرج الفيلم، لولا أن إيف مونتان الذي كان حاضراً في المؤتمر بصفته بطل الفيلم، غضب من الاستفزاز الذي يبديه الصحافي ووقف ليجيب عليه بحدة لا شك أنها رسمت من فورها قانوناً يتعلق بنزاهة النجوم ومكانتهم في عالم الاستعراض بل حتى في عالم السياسة نفسه.

حين غضب إيف مونتان

كان السؤال واضحاً في سذاجته حيث ذات لحظة وقف الصحافي المذكور وطلب الكلام موجهاً إلى المخرج كوستا غافراس سؤاله متهماً إياه بأنه قد جاء بنجوم سينمائيين من المستوى الأرفع والشهرة الأوسع كي يستغل وجودهم كوسيلة “غير نزيهة” لدعم الأدلجة المطلقة للفيلم، مؤكداً أن “الحس السليم كان يقتضي منه إسناد الأدوار إلى ممثلين غير معروفين تاركاً للجمهور اختيار موقفه الأيديولوجي على هواه”. وفي محاولة منه لتوجيه دفة النقاش نحو موضوع الفيلم ومسعاه فيه إلى تأليب الجمهور على اتخاذ موقف واضح من الدكتاتورية العسكرية التي كانت تحكم اليونان حينها، أراد كوستا غافراس أن يواصل خطبته، لكن إيف مونتان بقميصه الأبيض الرياضي وصوته الجهوري وقامته المتمردة، قطع على مخرجه حديثه ونظر إلى الصحافي بغضب وقال: “في الحقيقة أننا نحن معشر النجوم الكبار كما يسمينا هذا السيد، سئمنا من أمثاله من الصحافيين الذين لا يعتبروننا أكثر من أحذية طال استعمالها! إن هذا الفيلم عمل كبير له أصداء تعم العالم كله. فهل تعلمون أنه لولا وجودنا فيه لما كان في مقدوره أن يوجد. ونحن بدورنا لولا انخراطنا إلى جانب قضايا الحرية والتقدم لا يمكننا أن نوجد... ولست أفهم يا سيدي ما الذي قد يزعجك حين ترى أن النجوم الكبار أي الفنانين الكبار يمكنهم أن يكونوا شرفاء ومناضلين وأصحاب قضايا...”.

النجم ورسائله المتنوعة

ومن هنا سيقول كثر أن أهم ما فعله إيف مونتان بتدخله في تلك اللحظة بالذات وعلى تلك الطريقة الغاضبة والمنفعلة، إنما كان نوعاً من إعلان بداية انخراط “أنصاف الآلهة” الذين كانهم نجوم السينما والغناء والاستعراض، في حراكات ديمقراطية ونضالات من أجل الحرية. وهو ما كان قد سبقهم إليه كبار المثقفين في فرنسا وغيرها في سلاسل تمتد من فولتير وروسو إلى إميل زولا فسارتر ناهيك بمعظم الفلاسفة والمفكرين (وبخاصة منهم من جمعهم المؤرخون تحت مسمى “فرنش ثيوري” – من الذي برزوا في ميادين كانت تعتبر غير ميادينهم حتى تبدلت الأوضاع تحديداً مع انتفاضات شبيبة 1968، واعتبر أمثال ميشال فوكو ورولان بارت وجيل دولوز وفيليكس غاتاري وكلود ليفي ستروس – سواء شاؤوا ذلك أم أبوه – الآباء الروحيين لتلك الانتفاضات سائرين في ذلك على خطى سارتر نفسه).

فبالنسبة إلى إيف مونتان الذي لا شك قد ذكرته تلك اللحظة السينمائية بشبابه حين وصل إلى فرنسا في بدايات ذلك الشباب وعاش حياة النجومية ليتحمل لاحقاً ملامة أخيه الذي كان بقي في مسقط رأسهما الإيطالي مناضلاً في سبيل التقدم والحرية، فإذا بتلك الفرصة التي أتيحت له في “كان”، تمكنه من توجيه رسالة متعددة المعاني بالتأكيد إلى أخيه، في وقت وجه فيه إلى العالم رسالة تعيد الاعتبار إلى كرامة النجوم ودورهم في المجتمع!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“اندبندنت عربية” – 24 نيسان 2024

عرض مقالات: