اخر الاخبار

الدموع تطهّر القلب من الأحزان والهموم والاكتئاب، وتقضي على المشاعر السلبية التي نشعر بها، ولها دور واسع في أن تجعل الإنسان يشعر بالراحة، والدموع احياناً تربطنا مع أحزانٍ تستقر في أرواحنا والنهر نستمد منه لحياتنا ينبوعاً، ليُبادرنا الشاعر منذر عبد الحر بالمَعنيين فيكون مساراً بين الحياة والموت، بين الحزن والسعادة، ومن قصائد المجموعة الشعرية يتوارد الى خواطرنا حُب الشاعر للأسماء والاماكن، إنه عِشق الوطن والناس، عِشق الارض، ومن خلال حُزن الكلمات والانتقالات بين ألم وآخر، بين رحيل الاصدقاء والخوف من المستقبل ومعاصرة الحاضر، نجدُ الشجن زائراً يومياً له وللنهر دموع تؤطره فتغسل بعض حُزنه ويغلقُ على المتبقي من حزنه بين أضلاعه والمفتاح لدى الحارس اللاهوتي في أقصى بيته الكائن قُرب البُعد الموازي لنا، الزمن لا يكفيه لأنه يبحث عن يوم يجتاز ال 24 ساعة، ويمسك ُ الدفة لنبحر معه بين قصائد وكلمات بلا أمواج فهي هادئة تدخل القلب بلا إستئذان. في قصيدته (آباؤنا..حراس الشجن) يتحدث الشاعر والزهو يُظلله فهو حزين لكن فخور لتتبين علاقته الروحية بالاب، فهو الرمز وهو المفتاح نحو السماء، يشعر به وطناً، الفقراء هم حُراس الجنة في الارض والسماء وهُم حراس الزمن لنا حتى بعد مماتهم، يشرح لنا إصطفاف الأرواح ورمزيتها، يشدو بأبيه كأغنية بمواويل حزينة، إنه اول قصيدة في حياته (نفخر ُ بآبائنا.. وهُم يفتحون نهاراتهم بشهقة ٍ ويزرعون فينا فسائل فرح فنرى أكواخنا قصورا وثيابنا مطرزة بينابيع الحب) و(كلما خرجنا معا لمقهى المدينة نتبادل الضحكات)، لتكون علاقة عاديةً لكن فريدة، كلاهما شخص واحد الأب والإبن.

يتمتعُ الشاعر بخاصية الاستقراء والاستشراف للمستقبل المتصل بالماضي لإنه ينغمس بشخصية المرثي عنه لتكون صورة ذاتية عنه كأنه يرثي نفسه ففي قصيدة (لا تمزح معنا يا مروان) يتناوب الحُزن والاستغراب وعدم القصد من الرحيل، هُنا يصف الراحل مروان بأنه نجم ٌ في سمائه وسماء أصدقائه، هُنا يكون حُلما ً وواقعا ً، هنا الحزن في السماء، يذكر علي عبد الله ربيع محمد احمد في ظاهرة التنبؤ في الشعر الحديث (حاصل على دكتوراه في الادب الحديث من جامعة الازهر) يذكر أن الربط بين النبوءة والشعر في الوعي العربي بارز وقوي حيث يشير المفسرون المعجميون الى ما يشبه القرابة الدلالية بين الفعل (شعر) وبين المعرفة بالحدس وكان الشاعر عند العرب هو الذي تنتقل اليه المعرفة عن طريق الالهام، وهكذا فإن شاعرنا عبد الحر لديه صفات الاستقراء والتنبؤ فكلماته الشِعرية بالرغم من حزنها الواضح لكنها تحمل تنبؤات في القريبين له (أرى سربا من الغربان يُغطي النهار ويأخذني من أذني لأعرف ان البسمة التي انطفأ وهجها حنطت ملامحي وصلبت قلبي على لغز حياتنا).يستمرُ سَفرُ الشاعر مع الراحلين في قصائده حيث يجد الهدوء لديهم تحت شجرة ليتكلموا سوية، يتكلم عنهم كملائكة يهبطون من السماء نحونا، نحو الفقراء على حافات الطريق أو في زحامات الساحات حيث البحث عن الطعام، ففي قصيدته (ايها العالم كفى ضجيجا ً)، (بانتظارك نوارس وفواخت وفسائل من جمر آهات، لم تزل العربات نائمة ً بانتظار فجر ٍ ستحمله انت، يكفيك، كأنك آت من كوكب ٍ بعيد)، (بانتظارك : أغان ٍ.. واناشيد.. ونزيف جراح نبيلة)، ويظل الشاعر صارخا ً كفى ضجيجا ايها العالم، انها هتافات القلوب المتمسكة بالحياة والتي ترفض الحزن والموت.

الراحلون لهم مكان أثير في قلب الشاعر حيث يتناوبهم مع قصائده، واحدة تلو الاخرى، بل هم معه فلا يعتبرهم قد رحلوا بل إمتزاج الروح والقلب معهم. يسألهم (الى اين) ؟ قصيدته الى سلمان داود محمد (هل مللت الانتظار يا سلمان ؟ اعرف ان بك لوعة) (كلهم يريدونك تقرأ عليهم ما تبقى من علامتك الفارقة انزل اليهم من غيمتك الارضية)، إنها قراءة روحانية صوفية جميلة للوحة سماوية سريالية حيث إحتفاء وقصائد هناك، وفي الجانب الآخر مأتم لدينا (يا للهول نحن نبكي وهُم يضحكون، نحن نقيم مأتماً وهثم يحتفلون بك)، الشاعر في قصيدته يسافر بروحه معهم حيث ينتظرونه أو ينتظرهم فالقصيدة هنا لقاء ٌ بل ندوة مشتركة بين الراحلين وبين من مكثوا، بلا عريف حفل فالحفل سماوي وله إطار ملائكي صوفي. إنها مدارات مستمرة بين الحياة والممات، بين المدح والرثاء، راحل ٌ يسلم الراية لراحل ٍ (بالأمس ِ تنهد ابراهيم الخياط وهو يرى دموعنا تغسل ركام قبره، وقف بيننا وهو يقول لا تحزنوا، أنا في علياء المعنى وانتم لا تعلمون، انني استعد لاستقبال شاعر) ص27. يستمر نشيجه الروحاني وبكائه فقصيدته تذرف الدموع بدل الحروف والكلمات (الى اين يا صديق الاوجاع وشذى النقاء، الى اين يا ربيب السلام، الخارج من الحروب بصمت جريح، الى اين يا سلمان؟

في قصائده يرتحل الشاعر مع اصحابه ِ بنسماتٍ ويستأنس مع الراحلين منهم، حيث يمزج كلماته مع عاطفة ٍ وحنين، يسافر نحو أزمنتهم، معهم يغني لليل ٍ يغطي المسافات بين الماضي والمستقبل، يتكلم معهم من خلال كلماته ومن خلالنا ليصف قلبا ً مسافرا ً بين صدره ِ والسماء والنجوم هي المصابيح، يذوب رقة بكلماته وقصيدته (الكائن المنسوج من حب وجمال وطيب وإبداع) حين يصف الشاعر عمر السراي (ما كنت إلا عاشقا ً، طاف البلاد بقلبه ِ) ص 31، إنه يصف نفسه ويصف عمر السراي، فالارتحالات متوازية بينه وبين أصحابه. (الشرفات قلوب والعيون ينابيع والوجوه فنارات، الأصدقاء نخيل والبيوت مرايا تبتسم) ص44، ما أجملها من كلمات تسافر على غيوم تُظلل مسارات حياتنا المرتحلة عبر الازمنة، ليقترب بها من فضاءات الروح والرمزية والصوفية، الاصدقاء كالنخيل، هُم كالنخيل بل هُم الوطن.

يبقى الشاعر عبد الحر مرتحلاً بين المدن والاصدقاء والشعراء وروحه تظل تجوب الآفاق على البساط السحري للسندباد، يتجول عبر الابعاد باحثاً عن قصيدته التي ما زال يكتب بها عنهم. يتكلم مع يوسف ومنها الى نفسه (يوسف.. أيها الراهب، العاشق، ما زلت تحفظ خطى الذين مروا عليك، تعرف أسرار الجدران والكراسي الثابتة أو المتحركة)، الشاعر منذر عبد الحر يناجي نفسه من خلال قصائده لتنطلق الكلمات من ذاكرته وقلبه نحو مسارات الزمن، (ما ادخرناه، صار شعلة في رأسينا، انت تنقل الماء بدلو صغير من نهر شاحب الى ساقية ٍ وانا على جرف أسئلتي أشذب منها الندم وأعلقها على جدار وجعي). إنَها رحلة شعرية ذاتية المعنى، عمومية المغزى، روحية العاطفة، يغزل بكلماته ثوبا ً شعريا ً يليق بأصدقائه والمدن الراسية عند الانهار وقلبه المتوجع من ذكرياته ومَن رحلوا، إنها دموعهُ، والنهُر الذي يصَبُ في قلبهِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

*صادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة / بغداد 2024