اخر الاخبار

تضعنا قراءة كارل ماركس الفيلسوف أمام معطيات تتجاوز قراءة ماركس الثوري، أو ربما يكون الثوري والنقدي هما جزءاً من فاعلية الفيلسوف الذي تدرّب على اسئلة الجدل الهيغلي، واغناه بالجدّة والحيوية والمساءلة والتجاوز، وباتجاه جعل من الممارسة الفلسفية لماركس مجالا حرا، في التعبير عن الافكار الجديدة، وعن الصدمات التي قوّضت كثيرا من مثالية هيغل..

الموقف من التغيير الذي اراده ماركس، كان صدمة لمفهوم “التفسير” الثقافي والسياسي الذي انحاز اليه هيغل، وهذه المغايرة هي التي اعطت لصفة الثورية عند ماركس بعدا اجرائيا، وتمثيليا لتحولات الوعي الضدي إزاء الاكراهات الطبقية، وما رافقها من سياسات قهرية، ومن استحواذ وعنف واستغلال، جعل من  الخطاب الماركسي أكثر تمثيلا لفاعلية الصراع الذي بدأت مظاهره تتضخم، على مستوى التوصيف الطبقي، أو على مستوى التوصيف الاجتماعي، وعلى مستوى تعرّفه على تاريخ الفلسفات الكبرى، وعلاقة هذه الفلسفات بالصراع الاجتماعي والسياسي، وعلاقتها بتمثيل التحولات الكبرى، بما فيها التحولات في الديمقراطية الأثينية، وفي مظاهر الاستبداد الروماني، وصولا الى مظاهر الاستبداد “القرووسطي” وتأثرها بالدوغما الكنسية، وبانهياراتها في المرحلة “ الوثرية- الكالفينية- والتي اجهضت كثيرا من مظاهر “التفلسف” وقتل بعضهم، ومنهم الفيسلوف الايطالي جوردانو برونو الذي أُعدم حرقا بتهمة الهرطقة.

ما كان لماركس الفيلسوف أن يكون ثوريا ونقديا لولا اطلاعه العميق على هذا التاريخ الأوربي “الاسود” ومقاربته لأطروحاتها الحديثة، لاسيما مع الفيلسوف ديكارت وصولا الى الفلاسفة الالمان فيخته وشيلنغ وكانط، وصولا الى هيغل، وعلى نحوٍ جعل من “ أنوية” ديكارت مدخلا للحديث عن القوة الخلاقة للأنا، عبر تحويلها الى قوة مُفكّرة داخل الطبقة، وداخل المجتمع، لأن “أنا” ديكارت ستظل على الرغم من حيويتها حذرة ومتعالية، وأن علاقتها بالوجود تكمن بالافكار وليس بالاعمال.. 

كما أن علاقته بالفلاسفة القوميين الالمان “فيخته وشيلنغ” لم تكتسب حيويتها سوى ما جعله يدرك أهمية أن يكون الخطاب الفلسفي فاعلا في التعبير عن “وعي الأمة” وحاجاتها، وأن يمارس وظيفة المحرّك الرافض للهيمنة، واعطاء الذات القومية قوة داخلية تدافع فيه عن تاريخها وعن مشروعها في الوجود والحرية وفي تمثيل الذات الالمانية، وحتى انحيازه الى فلسفة “كانط” كانت تمثيلا حرا ومشاغبا لا لسؤال النقد، بوصفه نقدا للميتافيزيقيا، ولسياسات الهيمنة، ولطبيعة الافكار المناورة التي طرحها في “نقد العقل النظري” أو في المقاربات التي اثارها في “نقد العقل العملي”، وبقدر ما كان كانط أكثر اهتماماً بالاشتغالات التأسيسية  لفاعلية العقل النقدي، إلّا أن مثاليته، وحصر مفهوم النقد بالافكار فقط، جعلها تبتعد كثيرا عن تشخيص مظاهر  القوة الطبقية التي تملكها السلطة..

مثالية الافكار ونخبويتها جعلت من ماركس يتجاوزها الى مقاربة اشتغالات الجدل الهيغلي، بحثا عن الفكرة التي تعزز وعيه بالتجاوز، وبمعرفة التاريخ وحركته المادية، وبما تصنعه قوة التفكير التي جعلها ماركس في مرحلة لاحقة قوة داعمة واساسية في أطروحاته عن الجدل، وعن نقد المفاهيم، بما فيها المجردة منها، مثل “الروح” والعمل على تغيير النظر الى العالم، عبر تغيير النظر الى الواقع، وتجاوز ثنائية “العبد والسيد” الهيغلية الى نسقٍ اكثر فاعلية في التعبير عن ثنائية الصراع الطبقي بين القوى المُستغَلة والقوى المُستغِلة، وعن خطورة تضخم رأس المال وفائض قيمته، والسلطة التي يصنعها بمؤسساتها ونظامها وغرضيتها القائمة توظيف ادوات الانتاج للسيطرة على قوى الانتاج..

الدفاع عن ماركس الفيلسوف، يعني الدفاع عن ماركس النقدي والثوري، لأن نقده ل”المثالية” يتجوهر حول نقد العقل ذاته، وحول توظيف المعرفة لتكون اداة نقدية في مواجهة تلك المثالية من جانب، وللنظرة المادية الضيقة والجامدة من جانب آخر، لاسيما اراء فيورباخ ومجاله النظري السكوني..

ماركس والواقعية الثورية

لا تعني اطروحات ماركس الاكتفاء بتثوير الفلسفة، والبحث عن تغيير مجرد للافكار، بعيدا عن “التفسير” لأن مفهوم التغيير المجرد سيكون أكثر ضررا في صياغة وجهات النظر، وفي ترسيم السياسات، وايجاد تداولية للمفاهيم الفاعلة، بما فيها مفهوم الصراع الطبقي والثورة.

إن التفسير عتبة اولى ل”التغيير” ولإعطاء النقد قوة عاقلة، تُعطي حافزا للقوى الحية دورا مهما في تحريك الفاعلية الثورية، وفي جعل الفلسفة قوة تواصلية مع الاقتصاد والسياسة والاجتماع، إذ إن حصر الفلسفة بتجريد المفاهيم يجعلها “ضيقة الأفق” ومكتفية بنخبويتها، وبأطروحاتها حول تفسير العالم..

كتاب ماركس “الرأسمال” فلسفي، وهذا ليس توصيفا مراوغا، إذ  لا يعني ربطه ب”الاقتصاد السياسي” فحسب، بل بصياغة نقدية للاقتصاد، الذي ينطلق من تصورات تجعل قرينا ب” الاقتصاد الاجتماعي” وبقيم العدالة والحق، ورغم أن بعضا من الدارسين يجد في هذا الطرح “مثالية جديدة” إلّا أن مقاربة السياق الذي طرح فيه ماركس افكاره ستكشف لنا عن الفاعلية الواقعية للتأسيس اولا، وجعل الاقتصاد السياسي تحت طائلة النقد ثانيا،  واغناء مفاهيم الاقتصاد بمفاهيم الفلسفة ذاتها ثالثا، حيث تكون تلك المفاهيم قريبة من المجتمع ومن الاقتصاد، وبما يجعلها تملك “نوعا من الواقعية الموضوعية” كما قال ماركس..

فاعلية النقد في مشروع كارل ماركس هو ذاته جوهر مشروعه الفلسفي، فبالقدر الذي حرص عليه تواشجا مع تاريخ الفلسفة النقدية الالمانية، فإنه جعل من البحث عن قيمة ذلك النقد قرينا بالقيمة التي تحملها الافكار الجديدة، وبما يتركه أثرها من تمظهرات تعلب دورا في حركة التاريخ، وفي جعل الاقتصاد علما دافعا للتقدّم، ولجعل الفلسفة أكثر انفتاحا وتقبلا للمغايرة، بوصفها مجالا تفاعليا لصياغة المفاهيم، ولأن الاقتصاد السياسي حاكم قوي في تنظيم اليات الاجتماع والسلطة والثروة والقوة، فإن وضع هذا الاقتصاد في انساق فاعلة هي التي تجعله اكثر تأثيرا على التأطير الاجتماعي، وعلى اشباع حاجات الناس والتعبير عن مصالحهم، بما فيها مصالح استهلاك السلع والبضائع، وهذا ما يجعل الحاجة الى التغيير، قرينا بالحاجة الى التجاوز، والى ضبط ايقاع الواقع الاجتماعي والاقتصادي، وحتى السياسي، وحتى ضبط ايقاع “الاسواق” وانماط الاستهلاك، وهنا تبرز حيوية ماركس الفليلسوف الذي ينظر الى هذه الايقاعات من خلال منطق تحولها الى “قوة ضغط واستبداد” أي إنها تدفع الى احياء علاقة فلسفة ماركس ب”الثورة” وبأن اطروحات ماركس النقدي، ستظل في جوهرها هي أطروحات ماركس الثوري، حيث البحث عن التغيير هو الشفرة التي تحرّك الافكار، مثلما تحرّك مصالح الأمم.. 

عرض مقالات: