في مرحلة صناعة السؤال والموقف في القصيدة الحديثة المعاصرة، نتبين طبيعة الوصول الى غايات الشاعر ذاته، فالقصيدة التي لها قصدية في المعنى، هي ذاتها القصيدة التي تثير السؤال، بمعنى ان ثمّة لعبة شعرية يريد الشاعر ايصالها عبر كتابته، وهذا يعطي مغزى فحواه ان الشعر ينحو منحى مغاير لما ألفناه سابقا حين تكون اللغة ذاتها ذات بناء تجريدي متعالٍ ..
(أسئلة الفقد) للشاعر عبد الهادي عباس واحدة من هذه التجارب التي تكشف للوهلة الأولى ان في الشعر الكثير من الموقف والأسئلة الوجودية، حيث انشداد الشاعر الى المضمون عبر اثارة الهاجس الذاتي، ينطوي على معنى وعن استغوار الآخر (الفقيد)، وهذا الأنشداد قد يصل حدّ التوجس الذاتي بلغة مسترسلة، إذ الغور بعمق اللغة الشعرية، هو الغور بعمق التفاصيل وأثرها، وما يلفت النظر اننا لم نقرأ في مطلع التجربة الشعرية (إهداءً) وهذا يعود الى عمق التفكير في جعل مشاركة القارىء مشاركة ضمنية، ليبقى السؤال الأشكالي: من الآخر الذي أسقطت عليه أسئلة الفقد..؟ ويمكن وصف هذه الكتابة ضمن مشروع (السير الذاتي) وعملية اسقاط ما في دواخل الشاعر عبر أدائية شعرية انطوت على مشروع (الكتاب الشعري)، حيث الفقرات المكتوبة عبر تواليات متتابعة، أخذت دورها في البناء والتلقي، فكانت (80) فقرة مرقمة ولها توهجات عالية الحس الذاتي، فمنذ الفقرة الأولى يظهر المبنى الدلالي حيث نقرأ:
وتبقى تشاغلني من بعيدٍ
وأبقى لصيقاً بظلي
وها أنذا متعب في فضاء روحي
قد تعاندني خطواتي .. ثمَّ أكبو
ويغرق رأسي بصمت مخيف>
لعل مسألة التشاغل التي بدأ بها الشاعر، هي ذاتها المعبرة عن مسألة (الفقد)، وهذه الرؤية الحلمية التي تحاول الأستعادة عبر اللغة الشعرية، هي تمنيات وما على الشاعر سوى التعبير عنها، ليبق الأثر ـ أثر الفقيد ـ مدعاة لعبة لغوية..
كما ان طريقة استدعاء الآخر/ الفقيد/ عبر (الفقد/ الشعري)، تبدو كأنها محاولة اصطناع بوحي، عبر شعرنة سردية، ربما تأخذ على عاتقها الشحن الذاتي، او في حقيقة الأمر تعبر عن منولوج داخلي لأحساس كبير واضطراب واضح، فالمناجاة في حقيقتها كوميديا سوداء، حيث نلمس ان سوداوية الشعور بالمعنى النصي يدور من فقرة الى اخرى عبر استلهامات ادائية لأستحضار المناسبات: (في أول أيام العيد / أعتدت أنْ أقبل يديكِ)، و(اليوم هو الأول من رمضان / يوم مختلف جداً / نستقبله بالصبر والطاعات)، والذات الغائبة (الفقد): (انتِ لا تأكلين ولا تشربين ولا تتنفسين ولا تقلقين ولا تتألمين ولا تبكين ولا تفرحين ، لا نهار يمرُّ عليك ولا نجمة تحرسك) ، والأثر/ الذكرى: (في البيت تنثين العطر كثيراً/ وتجيدين التحليق بلا أجنحة/ فلماذا أودعت فم النورسين/ وتركت الأبواب لنا شاحبة والحيطان؟) ص19، (وأحنُّ إليها / والبيت ينوح كثيراً) . هذه العلائق (الدراما شعرية) عبارة عن صرخة في آذان المتلقي، وكأن عرضا منودرامياً تشاكل عبر صورة أدائية في ذهنية القارىء، وهذا هو سرُّ انشادنا لملحمة (اسئلة الفقد)، التي تعد نقلة في تجربة الشاعر عبد الهادي عباس من حيث طريقة الكتابة الشعرية والبناء المقطعي المتراص..
الكتاب الشعري (أسئلة الفقد)، يقودنا الى مساحة عميقة في قراءة المعنى عبر اسلوب افتراضي صاغه الشاعر بغية تكريس مبناه الشعري، وهي من وظائف القصيدة التي تتمتع باللعب المجازي والأستعاري، ولعل ما قرأناه يعبر عن قدرة توالدية لصور شعرية متوالية، وان (الفقيد/ الآخر/ المنادى الغائب) يتقافز بين الجمل الشعرية وفقراتها الـ(80)، هذا التلذذ المتكرر والمشحون بروحية الشاعر، يخلق استعادة الآخر بطريقة رمزية، وكأن القصيدة مرآة سحرية تستعيد الغائب وتحاوره، هذا ما قام به الشاعر عبد الهادي عباس في اسئلته الفقدية، جدل القراءة وتأويل المعنى الشعري ..
ثيمة النص في (اسئلة الفقد) تأخذ على عاتقها جذر الشاعر في ما يسمى بـ(الشاعر الضمني)، الشاعر الذي يطرح الأشياء (مع امتلاكه وجودا معلنا داخل نصه)، ويدور في دوامة استنهاض اللغة الشعرية عبر كوامنها ودقائقها ويسخرها لنوازعه الذاتية، فهو الراوي ـ أي الشاعر ـ، وهو العليم ، وهو المناجي ، وهو الواصف ، وهو المعبر ، وهو المنكسر ، ومن خلال ذلك نمسك بكلية الموضوع على قدر من الأنسراح القصدي في بناء المشاهد والشواهد المعبرة عن الذات، فاستعادة الغائب/ الفقيد عبر رمزية شعرية يأخذ في الحسبان فعل الرغبة الروحية وتطهيرها عبر إشباع وصفي متفاوت بين هاجس ذاتي وايقاع رؤيوي هائم في فضاءات مفتوحة، نقرأ:
أقول : متى تستيقظ الغيمة من غفوتها
واهتدي إليها ..وتلتفت لمخطوطتي
وننتشي .. وربما نطير..
هذه الدراما التي قرأناها تتفاوت بين فقرة وأخرى بحسب صعود حدّة الموقف المكتوب عن غيره، فالفكرة هي ذاتها التي تجعلنا نصغي الى آخر ما يرده الشاعر من بوح، فما بين (استيقاظ الغيمة .. والانتشاء .. والطيران)، ثمّة صحوة ادراكية تحمل احساسا حاضرا في النص الشعري، نقرأ:
في بيتي .. العثرات تشاكسني
وطبول الوقت تلاحقني
والحيطان ثقوبٌ للنايات.
المعنى الشعري في (أسئلة الفقد) يكتمل عبر تراجيديا فيها غواية الأنصات والأحساس الشعوري المقحم بأسئلة فيها رؤيا متفاوتة في طيات الفقرات المكتوبة، كما يبدو ايضا ثمّة مناجاة مطلقة شارحة ومنبسطة في طرح المضمون، ولعلها لعبة شعرية مغايرة لدى الشاعر في تقديم تجربة تمتعت بمزايا واسعة في الألهام والتجلي، ثمَّ الحسي والهاجسي، فهي ملحمته التي ستبقى من بين تجاربه الشعرية السابقة، وحريُ بنا الأشارة اليها بوصفها واحدة من التجارب الشعرية التي فيها ميزات فنية معاصرة انطوت على آلية بنائية جديدة.