اخر الاخبار

هذه الرواية واحدة من بين الروايات التي استطاع صاحبها نيل جائزة “نوبل” للآداب 2021م، بكل جدارة، وهي مكتوبة بالإنجليزية مع أن لغته الأم هي السواحلية المعتمدة في “تنزانيا”. بدأ في الكتابة في الحادية والعشرين، وأصدر عشر روايات منذ العام 1987م إضافة إلى مؤلفات أخر تتحدث عن مخلفات حقبة الاستعمار الألماني في بلده. قلم واع يعرف عماذا يكتب؟، ولماذا يكتب؟ هكذا تستدل اليه عندما تفتح كتبه، ومعظمها روايات، لكنها بخبرة الأستاذ في الأدب الإنجليزي المتخصص في مادة “ما بعد الكولونيالي” في جامعة “كنت”، كانتربري، وبقي حتى تقاعده قبل مدة. يمكن أن تُعتبر هذِهِ الرواية إضافةً إِلىٰ أرشيف الأدب الإفريقي العظيم، فإلىٰ جانب الموضوعات الّتي تسود أعمال “عبد الرزاق قرنح” مِن هجرة ونزوح وعنصرية ومرحلة ما بعد الاستعمار؛ تُصوّرُ هذه التجربة موضوعاً هامّاً ، لكن نادراً، ما يُسلَّط الضوء عليه، ألا وهو حيوات ومصائر الجنود الّذين جندهم المُستعمر إِلىٰ صفّه. إنّهُ انعكاسٌ حيّ لِكفاح وحياة المواطنين الأفارقة الّذين اختُطِفوا أو بِيعوا مِن أجل القتال لصالح أوروبا. يجد القارئ بانها “رواية توثّق ما كسب الإِنسان وما فقده، فِي سبيل النجاة”. جاءت الرواية “بلغة سلسة وحكاية مُنسابة يسلّط “قرنح” الضوء علىٰ ماضِ إفريقيا الاستعماري الدامي… وعن طريق حياة شخصياته المُعقّدة يكشف عن آثار سنابك خيول الاستعمار المتسُلطة، ويُقدّم دليلاً إِلىٰ عالم مفقود كيلا يُنسىٰ”. تدخلنا الرواية بين تلك التفرعات، واهوالها التعسفية، في التلاعب في تغير الهويات، بتداخل التقسيمات العرقية، فالبلدان التي يطأها الاستعمار لابد وان يترك فيها قنابله التي سوف تنفجر لتحقق الطائفية البغيضة، والتي تكون نتائجها مدمرة، وقرنح دقيق الملاحظة، في التأشير والتسمية، نعهده قد امسك بوعي بزمام تلك الفوارق وكشفها خاصة التي تريد النيل من كل استقلال. و”قرنح” (1948) روائي وأكاديمي تنزاني من أصول عربية “يمنية”، يقيم في المملكة المتحدة ويحمل الجنسية “البريطانية”. من أعماله: “ذاكرة الرحيل”، “ما بعد الموت”، “طريق الحجيج”، “دوتّي”، “الجنّة”، “صمتٌ مدهش”، “قلب الحصى”، “الهِبة الأخيرة”، “عبر البحر”، و”هَجْر”. إضافة إلى العديد من المقالات المتخصصة في الأدب. يقول عن نفسه: -”أنا بريطاني من زنجبار، أرحب بالهوية المزدوجة، واناهض الكولونيالية”، ويظهر ذلك الإصرار في متن رواية “ما بعد الموت” الصادرة عام 2020، يقدم “قرنح” للقارئ الغربي والعربي على السواء رؤيته لموضوع تاريخي شائك، يتعلق بالجنود الأفارقة الذين أجبروا على الانضمام إلى صفوف المستعمر، بحيث يعود بالزمن إلى حقبة الاستعمار الألماني والحرب العالمية الأولى، والمكان هو بلد في شرق أفريقيا هذه القضية التي تُعتبر من ضمن الموضوعات البالغة الأسى المسببة لألم إنساني غائر لدى أصحابها، وللمقربين منهم أيضاً، نتابع في هذه الرواية مصير شابين أُجبرا على الالتحاق في صفوف القوات الاستعمارية الألمانية، ويكشف الكاتب عن معاناة الأفريقي، الذي يقاتل من أجل القوى الغريبة التي تتنازع على أفريقيا. “ما بعد الموت” رواية منفتحة على التعددية اللغوية، حيث الكلمات باللغتين السواحلية والألمانية. وقد راعت المترجمة ببراعة وسلاسة اختيار الترجمة المناسبة لهذه المفردات، ضمن سياق المعلومات التاريخية والسياسية والجغرافية، التي يحفل بها النص.

تبدأ الرواية بجملة (كان “عمر خليفة” عندما التقى التاجر “عامر بياشارا” ستّاً وعشرين سنة). ثم يستدرجنا الى حكي حكاية كل منهما مع عائلته، وانحدارهما، من المنبع الى المصب، ببراعة روائي قدير يعرف ما على الروائي تدوينه. يقدم الكاتب “عامر بياشارا” رجلاً ضئيلاً انيقاً مهذب اللفظ والفعل، كيساً مواظبا على حضور الصلوات، يتبرع للمكلومين عندما تضيق الحياة بهم، ولا تفوته جنازة الجار. يحسب أي عابر انه ليّن الجانب، لكن الناس يعرفون الوجه الاخر، ويتكلمون عن دهاء وسائله وشائعات ثرائه. والكتمان والقسوة هي السمات الأساسية في أي تاجر يدير تجارته كأنه يدبر مؤامرة، كما كان يحلو للناس ان يرددوا. اما خليفة فيرى انه قرصان، لا غنيمة صغيرة في حسابه: يُهرِّب، ويقرض الأموال، ويُخزِّن ما قلَّ لاحتكاره). تركز الرواية على تعاظم رؤوس الأموال لتكون الحاكم المطلق في كيفية استغلال هؤلاء المجندين، وزرع الرعب والموت والنهب والخراب، بالثراء واستعباد السكان المحليين. لكن كلا البطلين يُدركان في قرارة نفسيهما أن الألمان والبريطانيين والفرنسيين والبلجيكيين وغيرهم رسموا خرائطهم ووقعوا معاهداتهم كي يقسموا أفريقياً كحصص لنيل المكاسب الكبرى.

يمكننا القول انها رواية/ تاريخ “تنزانيا” منذ الحرب العالمية الأولى إلى الفترة المعاصرة. بداية من تاريخ تجارة قوافل التجار الهنود والاستعمار الألماني ثم البريطاني، وصولاً إلى حصول تنزانيا على استقلالها عام (1964). رواية مثيرة تستحق الوقوف، وكنز “ابستمولوجي” يشرح لقارئه تضاريس البلاد، ومصير العباد. قدمت هذه الرواية وثيقة عن تاريخ لم يكن مكتوباً في متون الكتب الظاهرة، انها رواية قالت ما يُمكن أن يحجبهُ كُتّاب التاريخ.

عرض مقالات: