اخر الاخبار

إميل حبيبي (1921-1996) كاتب مديني، لصيق المكان، حامل صخرة “باقٍ في حيفا”، التي وضعها شارة على ضريحه، وهو الذي اندرجت على قصته القصيرة “بوابة مندلباوم” (1954)، نظرية الفضاء أو المكان، قبل أن يقوم الفيلسوف الفرنسيّ غاستون باشلار (1884-1962)، بوضعها ونشرها في كتابه المعنون The Poetics of space الصادر عام 1957، والذي ترجمه إلى العربية، الروائي الأردني غالب هلسا، تحت عنوان “جماليات المكان”، حيث يقول باشلار في تعريفه المكان: “..المكان الأليف. وذلك هو البيت الذي ولدنا فيه، أي بيت الطفولة. إنه المكان الذي مارسنا فيه أحلام اليقظة، وتشكّل فيه خيالنا. فالمكانية في الأدب هي الصورة الفتية التي تذكّرنا أو تبعث فينا ذكريات بيت الطفولة. ومكانية الأدب العظيم تدور حول هذا المحور”. (هلسا: ص7).

وحبيبي في “بوابة مندلباوم” - التي يحكي فيها خروج والدته “ أم وديع”، من مدينة الناصرة إلى دمشق عام 1954، عن طريق بوابة مندلباوم، للعيش مع أبنائها الذين طوّحت بهم نكبة 1948 إلى دمشق -، يفسر المكان بالعلاقة الروحية فيه، أي بالذكريات الحلوة والمرة، وبلمة الأهل والأصحاب في البيت، وطقوس زيارة المقابر، وجرن الكبّة، والتلويح بالسلام لأشجار الزيتون وشجرة المشمش، ولعتبة البيت التي وقفت عليها أمه، لتودع أبناءها العرسان وتغني لهم، وكذلك التفاتتها من بوابة مندلباوم إلى الوراء، لتوديع الوطن.

المتعارف عليه، أنّ الرواية ابنة المدينة، والعلاقة بين المدينة والروائي، تكون حينا صدامية وأخرى تناغمية، أي تتوزع بين الائتلاف والاختلاف.

علاقة حبيبي بمدينته حيفا، على النقيض من علاقة الروائيين الكبار، بالمدن التي عاشوها ونبذوها، أمثال جيمس جويس (1882-1941)، الذي نعت دبلن بأنثى الخنزير التي تأكل أبناءها، وتشارلز ديكنز (1812-1870) صاحب “قصة مدينتين” (1861)، الذي صور باريس أثناء الثورة الفرنسية بالعدائية والقمع، وجورج أورويل (1903-1950) في “متشرداً في باريس ولندن” (1933)، الذي وسمهما بالفقر.

 مدينة حبيبي التخييلية الأثيرة هي حيفا التي كانت، والتي أُخلِي أهلها وهُجّر أحبابها وغُيّرت أسماء شوارعها وبُدّلت أماكنها، أي تبدلّت هويتها. رغم ذلك، بقي حبيبي بانشطار شخصيته بين شخوص أعماله الروائية، منزعا فيها يشرب الحنظل وحاله تقول “لا تلوموا الضحية!”، وهو الذي رشف من نبعها، إبان الانتداب ماء زلالا. وحيفا من منظوره لم يتغير اسمها لأنه توراتي.

حامل حيفا

حمل حبيبي في أعماله الأدبية، صورة حيفا الجميلة، التي كانت تضج بأهلها وبيوتها وأسماء شوارعها وأماكنها العربية. لقد اختزلها في عمله إخطية (1985)، في سيمفونيات حزينة “ذهب الذين أحبهم، وبقيت إخطيّة..”.

و “أقفر من أهله شارع عباس. ذهبت سروة وإخوتها كما ذهبت، من قبلها، إخطية” - (الأعمال الكاملة ص 690).

حيفا إميل حبيبي، التي عاشها إبّان الانتداب البريطانيّ، وبقي فيها بعد نكبة عام 1948، حتى وفاته عام 1996، موصيا أن تُنقش على ضريحه أيقونته “باقٍ في حيفا”، كتب عنها وهي المسكونة فيه حتى النخاع، بحسرة ووجع، من خلال استرجاع شريط ذكرياته فيها. حيفا الزمن الأول، حاضرة من منظور حبيبي، مرايا حنين للماضي الجميل إبان الشباب، إنها في قاموسه مكانا مُشتهى عامرا بالأهل والأحبة، “وكنّا، كما كانت حيفا، في شرخ الشباب، وميعة الصبا، نملأ بهما أسواقها وحواريها” (إخطية).

 لم يشتبك حبيبي أو يتصادم مع مدينته الأثيرة حيفا، بقيت مستعادة في كتاباته خارطة ولوحة موناليزا، بأسماء شوارعها وأماكنها وعائلاتها العربية وحكاياتها، وجغرافيتها الجبلية من جبل الكرمل وشارع الجبل، وشارع الناصرة وحدائق البهائيين، ودرج الموارنة وجسر شل، وشارع عباس، وشارع العراق، وشارع الملوك وشارع الخوري، والحليصة، ووادي الجمال ووادي الصليب ووادي النسناس، و”ساحة الخمرة “ التي أصبحت تسمى “ ساحة باريس”، ومنارة اللاتين وكنيسة الكاثوليك، وميناء حيفا وسكة الحديد، وصهاريج شركة بترول العراق، كما حمل صحفها ونشرات الشيوعيين، خاصة “الاتحاد” و “نضال الشعب”، التي صدرت إبان الانتداب البريطاني على فلسطين. تبدأ “إخطية” باسترجاع جلطة مرورية، حدثت قبل أكثر من عشر سنوات من صدورها عام 1985، في ملتقى شارع “هحالوتس” وشارع “الأنبياء” في حيفا، ثم غمرت كل شوارع حيفا، بعد أن قام مخلوق فضائي (فدائي) ملثّم بالتسلل إلى حيفا. ثم يمتد الاسترجاع إلى فترة الانتداب البريطاني، حيث يستحضر حبيبي، عطية الآتي من الجنوب اللبناني إلى حيفا، ليعمل دبّاغا في “سوق الشّوام”، ثم ماسح أحذية ثم خطّاطا، فموزّعا لصحيفة “الاتحاد” الحيفاوية السريّة عام 1943، لقاء عشرين قرشا، فيحمل رزمة مناديا عليها “جريدة العمّال يا أساتيذ”، ليعود بعد قليل مهشما باكيا. ثم يضطر العام 1948 إلى ترك حيفا والالتجاء إلى وطنه لبنان، ويتساءل حبيبي عنه بحسرة ووجع “فهل هو عائش وأين هو عائش؟”.

حيفا المستعادة في كتابات إميل حبيبي، هي حيفا التي عاشها فيزيقيّا، وقضى فيها رائعة شبابه. حيفا الواسعة العامرة، التي كان يحج إليها القرويون من كل أنحاء فلسطين، والمنثورة بين جبل الكرمل والبحر، “..حيفا بنت الكرمل، وادي النسناس، المنخفض، من وديان الكرمل، وشاطئ البحر هو ساحل الكرمل. والكرمل هو كرم الله. والكرمل كريم لا تبخل أدغاله عن ستر العاشقين حتى لو جاءوا من جميع أنحاء فلسطين - وكانوا يجيئون - فلا يملأون كوزه السخي. ما كان أقصر الطريق بين شارع عبّاس وشاطئ البحر. وما أوسع الدنيا في ذلك الزمن. الكرمل كله لنا والبحر. حتى جنينة عباس كانت حلالا علينا، دنيانا كلها كانت حلالا علينا: السهل والجبل” - إخطية (الأعمال الكاملة 666-667).

حبيبي وبحر حيفا

حبيبي عاشق البحر والصيد، على غرار إرنست همنغواي صاحب “الشيخ والبحر” (1952)، يرسم بحر حيفا وصخوره، بلوحات شاعرية جميلة، من خلال استرجاع ذكرياته المعسولة، “وكنا في شهر أكتوبر. والنسمة شرقية دافئة. والبحر رائق المزاج، تتنائر أضواء النّجوم على صفحته الهادئة. ونظرنا أمامنا فإذا حيفا المتوهجة أصبحت حيفاءين : حيفا المتكئة على مسند الكرمل، وحيفا المستحمة في البحر، متجردة من أقراطها وعقودها وخواتمها”. (المتشائل –الأعمال الكاملة ص 249)

الحمير في وادي النسناس

 يشكل التمسك بالمكان والبقاء فيه، هوية ومسألة وجودية في نتاج إميل حبيبي، ويتأتى ذلك بأسلوب مباشر وصريح حينا، وأسلوب تراجيدي ساخر ولاسع، مشبع بالهمز واللمز أحيانا، كما في صورة الحمير في وادي النسناس، المرسومة بأسلوب أليغوري شبيه بـ “مزرعة الحيوان” لجورج أورويل، وحبيبي معروف بأسلوبه الساخر المرّ، حتى الحمير في عمله التخييلي “المتشائل”، تمسكت بالوطن وبقيت فيه رغم تشردها فيه. إن رسالة حبيبي واضحة، وهي البقاء في الوطن مهما كلف الثمن، هذا ما يرد في المتشائل “هل هي مأساة الحمير في وادي النسناس، التي ظلت أكثر من سنة سائبة: حمير من الطيرة وحمير من الطنطورة وحمير من عين غزال، وحمير من إجزم، وحمير من عين حوض وحمير من أم الزينات صينت من العقل، ومن لغط الإناث، فلم تهاجر،..”-(الأعمال الكاملة -216).

إنّ حيفا الانتدابية - السالفة التي عاشها حبيبي، حاضرة في كتاباته مكانا عامرا بأهله وذكرياته، وألق ماضيه وعبق تاريخه، وجمال بحره وكرمله القريبين من قبره، الحامل سيمفونيته التي رددها في حياته “باقٍ في حيفا”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“الاتحاد” الحيفاوية – 3 أيار 2024

عرض مقالات: