اخر الاخبار

هل المثقف مستهدف للقتل؟ ربما خفتت تلك الصدمة في الذكرى العشرين لاغتيال قاسم عبد الأمير عجام، لكن أثر الصدمة ما زال قائماً، ربما لأننا لم نعرف بعد قتلته، ولِمَ قتلوه؟ ربما لأننا نخشى غدر الرصاص! هذه التساؤلات تطرح بجدية عن مغزى استهداف المثقف، مقابل ثقافة لم تستطع أن تخلّص نفسها من أحابيل السياسيين، وتحويلها الى أداة لخدمة السلطة.

هل بإمكان المرء أن يتخيل جثة هذا الكائن الحي، الذي يمشي على استحياء، ويهمس في استحياء، ويكتب في استحياء، لا نستطيع أيضاً أن نتخيله في مواجهة القتلة القادمين من جحور الأفاعي، ليشهروا عليه  أسلحتهم الجبانة، لعل لحظات مرّت راودته فيها أمل بأن الرصاصات تذهب طائشة، لعل املاً آخر راوده ولو لجزء من الثانية بأن ثمة التباساً أو خطأً في اصطياد الهدف، وان المسلحين السفلة سينبسون بكلمة تفصح عن جلية هذا اللبس الملّغّز، أو هذا الابهام الفاتك، أو لعله بوغت بمشروع القتل وأدرك أنها النهاية، هي ثوان معدودات مرّت قبل أن تنطفئ، ويحمل العدم الأبدي، لقد حمل هذه اللحظات معه.

لم يكن قاسم عبد الأمير عجام مثقفاً ملتزماً ومنظماً حسب، بل كان انساناً عراقياً صميمياً، طيباً في أقصى مستويات الطيب، يتلمس سجاياه الكريمة كل من عرفه، وعمل معه، أو التقى به، وتداول اسمه كل المثقفين العراقيين بمختلف انتماءاتهم ومشاربهم، كان مؤمناً أن ابتسامته وروحه الطيبة وارادته الخيرة ستكون أمضى من إرادات الشر، كان يؤمن بذلك بالتأكيد، إلا ان القتلة المتربصين لا يتورعون في إطلاق الرصاص إلى صدور الأصوات العراقية المكتنزة بالحب والمعرفة والحلم.

يومياته التي وصفت (بالدفاتر السرية)، كانت مكتظة بالحلم والأمل، برغم عذابات الخوف  والقمع والاستبداد والحصارات والحروب، كانت وسيلته في التحدي، والعطاء في آن واحد:

“ بالحب أكتب ملتاعاً ومضطرباً، وبي من الحزن ما يربو على جبل “

ذاك مقطع من رسالة إلى شقيقه في أواخر عام 1995، يعبر عن احساسه المرهف بالحياة، في أنقى لحظاتها، وأتعس حالاتها، وسط تلك الأجواء كان قاسم (يتلظى) مرتين : مرة بوعيه وهو يدرك حجم الرعب الذي يواجه. الانسان العراقي، ومرة أخرى بحزنه وهو يلمس عياناً كيف يقتل في هذا الانسان روحه، وحلمه.

كان قاسم عجام من نمط المثقفين الذين لا خيار لهم إلا الإشتغال بالكلمة والمعرفة والحوار، تجربته تلخص لنا عالماً من الانتماء الى هذا العالم ومحيطه، تجربة قدّر لها أن تعيد صياغة معنى الثقافة لتسمو بها عن اليوميات. لم ينفصل قاسم عن الواقع، بل ظل متواصلاً معه، عبر جماليات يحسّها أو يخلقها هو بنفسه، أو يشارك فيها.

 يجد في الثقافة اكتشافاً للمعاني الانسانية عبر ما انتجته عقليته النيرة، فهو مخلص لعراقيته وانسانيته، وهذا ما جعله على الدوام منفتحاً على الحياة.

في فكره اتسعت مساحات الجدل الثقافي والمعرفي، وهو من القلة التي تمسكت بالخيط الذي يشد المفكر بالمثقف وبالأديب، الى الأفق الأرحب بجدارة اخلاقية ومعرفية، والأهم من ذلك انه حافظ على ثوابت أفكاره وقناعاته بدور الثقافة في بناء الانسان، بوعي نقدي ناضج ورصين. لقد اختصر طريقه الى التميز بعقل حر مبكراً، وحرص استقلاله الاسلوبي بعمق وصدق مع النفس، ومع الآخر، كما تميزت كتاباته بحرارة التعبير، مما جعله حاضراً في المشهد الثقافي بغزارة انتاجه الابداعي وأصالته. 

كان يفيض رقة ودفئاً، يعمل بصمت ويتغافل عن العوائق، لا يصغي للضجيج، ولا تعطله شتى التداعيات والاختلالان عن المضي حتى النهايات.

لقد أتقن قاسم عجام أشياء كثيرة في حياته، من بينها اصطياد المودات والصداقات، كان يحظى بمحبة الجميع، كان رجلاً بهيأة حمام يفيض طفولة ومرحاً وعذوبة، مضى مسرعاً نحو الموت، مثل حلم ذهب، بجناحين ابيضين، فالأرض ما عادت تتسع لنزاهة الحالمين.

عرض مقالات: