اخر الاخبار

مقدمة بصيغة متن

لم تكتف ِقصيدة النثر باطاحة “ التفعيلة “ بوصفها آخر بنية في السياج العروضي ، وإنما اتجهت نحو كتابة عابرة لقصيدة النثر يمكن الاصطلاح عليها بـ “ نثرانية القصيدة “ ، وهي كتابة تعنى بنزعات ثلاث في الكتابة الشعرية الجديدة :

  • نزعة أولى - خرجت بكتابة عابرة لقصيدة النثر بروح متمرِّدة عليها ، ويمكن التمثيل لها بـ “ جوائز السنة الكبيسة “ 1993 - لرعد عبد القادر ؛ بوصفها أعلى تمرِّد في نطاق قصيدة النثر، لتستقر تجربته بدرجة معينة من الثبات النسبي عند مرحلة ما بعد قصيدة النثر في كتابه “ صقر فوق رأسه شمس “ 2002 .
  • نزعة ثانية - تمركزت بذاتها المستقلة ، فتحوّلت فيها قصيدة النثر من “ هامش الى مركز “ ، ويمكن التمثيل لها بـ “ اليد تكتشف “ لعبد الزهرة زكي - 1993 ، وخاصة في قصيدة “ الملائكة بين قوسين “ وقصيدة أخرى “ هذا خبز” ، لتتمركز أكثر في “ طغراء النور والماء “ - 2009 ؛ بوصفها أكثر تمثّلا ًلمرحلة ما بعد قصيدة النثر.
  • نزعة ثالثة - خرجت كلياً عن المعايير المدرجة في كتابة قصيدة النثر على وفق نسق خاص بها، أكثر جدة في تجريب المتواليات النثرية ، ويمكن التمثيل لها في تجربتي رعد فاضل في “ فليتقدم الدهاء الى المكيدة “ 1994، “ مخطوطة المحنة “ -2010 ، وطالب عبد العزيز في” تاريخ الاسى” - 1994، و” طريقان على الماء واحد على اليابسة “ - 2016 ، فالكتابة عندهما “ تسمح بالخروج على أفق التجنيس التقليدي ، وتسمح أيضا ً بطرح مفهوم الكتابة من حيث هي بديل عن مفهوم القصيدة (الخروج على سلطة النموذج/ عباس عبد جاسم/ دار الحوار/ اللاذقية – سوريا / ط 1/ 2014 / ص 5)، وقد إتجه كل منهما بطريقته الخاصة نحو” تحرير اللغة من “ قيد المدلولات “ ، والاشتغال على منطقة ما بعد قصيدة النثر بأفق مفتوح على مستويات متعدِّدة من الرؤية الى الذات والعالم .

وما يعنينا هنا : لأي نزعة من النزعات الثلاث تنتمي نثرانية القصيدة في” الورد ومرايا الجسد “- 2022 لعادل الياسري ؟

منذ السبعينيات ، لم يخرج الياسري عن إطار قصيدة التفعيلة عبر مجموعاته الشعرية السبع ، ولكنه خرج عليها في مجموعته الثامنة “ الورد ومرايا الجسد “ ، اذن فما تعليل الخروج كلياً على قصيدة التفعيلة ؟ أهو خروج على سلطة النموذج بدافع كسر النمط أم بدافع البحث عن رؤية جديدة للقصيدة ؟

وإن كنا إزاء إشكالية جديدة في تطور الشعرية العراقية باتجاه نثرانية القصيدة بصيغة مغايرة لقصيدة النثر، فهل حقّقت تجربة الياسري حيازة جديدة دالّة على إنجاز معين من سياق نثرانية هذه القصيدة ؟

  • الورد ومرايا الجسد

تسعى نثرانية “ الورد ومرايا الجسد “ للشاعر عادل الياسري الى إستثمار الدال كبنية متعدِّدة لدوال أخرى ، وما يعنينا منها : أهي نتاج أثر شعري أم نتاج صدى لهذه الشعرية ؟

وعلى الرغم من أن “ الكلمة “ من دون سياق لا معنى لها ، فإننا نرى أن  السياق مجرّد وسيلة لإدراك النسق ، وخاصة ان الدال في إحالة مستمرّة على ذاته وليس له “ مقابلة مرجعية “ ، لأنه يتجاوز متعة الأداء في الجدل القائم بين رمزانية “ الورد” ودلالة “ الجسد” .

وإن كان الشعر بمعنى ما “ جعل اللغة تقول ما لم تتعلّم ان تقوله(مقدمة للشعر العربي/ أدونيس/ ص 126) فماذا تقول نثرانية القصيدة ؟

اذن نحن إزاء نثرانية تعنى ضمناً بالملابسة الشعرية بين المجاز والتخييل ، فالشعر لم يعد يعنى بجماليات نسيج (الرؤيا) ، ليس لأن “ الرؤيا قد إنهارت ، ولم تعد تصوغ موقف الانسان المعاصر من الوجود أو من الآخر من نفسه من العمل الابداعي “( كمال أبو ديب/ جماليات التجاوز وتسابك لفضاءات الابداعية/ دار الملايين– بيروت/ ط 1/ 1997/ ص 18) ، وانما لأن الشعر صار يعنى برؤية العالم من خلال الذات ، بعد أن تحوّل الانسان المقهور الى ذات تتعايش فيها جماليات الحياة مع تناقضات الواقع .

وفي منظومة “ الورد ومرايا الجسد “ ليس ثمة بؤرة تنبق منها القصيدة ، وانما هناك مستويات متعدِّدة من التنوّع والتناثر والتعدِّد لكسر النمط الواحد ، وذلك من خلال اللعب الشعري بقواعد اللغة أولاً ، ومجالات الاستعارة ثانياً ، إبتداءً من عتبات القصائد: رقّاص الوردة – نافورة النار– ماء النار يشتعل – كرسي يسكنه الارتعاش ، ... ومروراً بشفرات البنى المزاحة عن المركز على مستوى الجملة والقصيدة بصيغتي التقديم والتأخير، والتبادل الدلالي:

- صديقي على القُرب تدخّنه السيجارة ُ

الكأس تشربُه / ص 25

– ونادلةِ الملهى الذي تركت به النساءُ الثياب عارية من الاجساد / ص 39

- تنورها لم أجد النار في رغيفهِ/ ص 27

وثمة ذات شعرية لا مركز لها ، بل وذات متشظية لا يعدو ان يكون الشعر فيها “ شعر اللحظة الراهنة ، ومن وجوه ذلك التركيز على البرهة وإنتاج القصيدة البرهية “ ، أي نحن إزاء ما يسميه كمال أبو ديب بـ “ شعر لحظة راهنة تعاين العالم معاينة ذهنية بارعة أو تتأمل تناقضاته ومفارقاته بوعي إنفصالي” (كمال أبو ديب/ جماليات التجاوز / مرجع سابق/ ص) .

ولغرض معاينة نسق هذه الرؤية ، يمكن التمثيل لها بالجمل الاتية :

- هي الآن في الحَلَبَةِ

رأسكَ الآن في الجَلَبَةِ

الآخرون لم يعرفونكَ/ ص 10

- “ مَلَك “ سحبتْ عريها إليَ

رقصتْ رغبة العصفورِ في حديقتي

تنورها لم أجدْ النارَ في رغيفهِ/ ص 27

- انا “سهى” ، ما أسمكَ سيدي ؟

- أنا عادل،

- عاشتْ الأسماءُ

- الأيام ليس لها البريقُ

خباز المدينة عافَ التنورَ/ ص 28

- أن يشتروا المرارةَ

أو يبيعوا خوفَهمْ للكؤوسِ

انتهى به المساءُ بغرفةٍ

ليس فيها سواهُ / ص 35

ويمكن أن يلحظ القارئ ، كيف يلعب الياسري على الرموز “ البينية “ بين المعنى الصريح والمعنى الخفي ، ولعبة الاحالة هنا تشكل مغزى هذه اللعبة في اللغة .

ولتوسيع مفهومنا لنسق الرؤية ، فإن النسق هو” الكل المركب من الاجزاء “ (الموسوعة الفلسفية/ موسكو/ 1983/ ص 606) ، وبذا نعد تطور النسق  عند الياسري - رؤية خاصة للذات على وفق علاقة واضحة غامضة بالاناسة ، ونعد تطور النسق من عوامل التغيّر والصيرورة الناتجة عن جدل الذات وعلاقتها بالبنى والناس والأشياء ، فالنسق “حيّز شعري” متحرك ، وغالبا ً ما يتجلى لنا تطور هذه النسق وتغيّره في كيفية اللعب بمقدرات اللغة لانتاج “ معنى جديد” أو لإنتاج “ معنى مراوغ “ من دون أن يتحوّل الى “ معنى عويص “ :

- نادلةُ البارِ أخلتْ الباحةَ من كرسيٍّ

وطاولةٍ نسيَ العاشقان الأصابعَ محمومةً فوقها/ ص 38

- إمرأة تبحث في الطرقات عن رفقةٍ تبدّدُ الحُزْنَ

إلتفتتْ إليكَ ،

آمالها شجرٌ يستضيف السريرُ أغصانه/ ص 38

- عدْ حيثُ جئتَ أو تأتيكَ سيدةٌ

تشهدُ أنكَ في ظلماء ليلتها كنتَ عاشرتَ صورتها،

وأودعتها ماءً جنونياً ليس تعرفهُ/ ص 96

وقبل ذلك ، تنبأ جان كوين بأن الشعر سيتحوّل من السبب الى الفعل ، من الموضوع الى الذات ، حتى “ أصبحت كلمة الشعر تعني التأثير الجمالي الخاص الذي تحدته القصيدة “( النظرية الشعرية / جان كوين / ترجمة وتقديم وتعليق الدكتور احمد درويش/ دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع/ القاهرة/ ط 4/ 2000/ ص 29) .

اذن هل تمثل كتابة “ الورد ومرايا الجسد “ أعلى ما وصلت اليه ذروة الشعر في نثرانية الياسري ؟

لقد تطوّر الشعر عند الياسري من ( شعر خالص) يعتمد معدّل تردّد الشعرية بالتفعيلة الى ما يمكن أن نسميه بـ( النثرانية العابرة للتفعيلة) ، وفيه تكمن قيمة القصيدة في كيفية ما تقوله وليس ما تقوله ، فالنثر عنده اضافة الى كونه لغة قائمة على علاقة الدال بدال آخر أكثر تمثلاً لرؤية الذات وتجليات الواقع بحساسية مغايرة ، فإن هذه العلاقة ذات طبيعة تركيبة يستدعي فيها الدال دوال أخرى ، وبذا يؤسّس هذا النموذج لقول ما لاتقوله اللغة لانتهاك ما هو مألوف برؤية نثرانية جديدة .

ولكن الدال في هذه الشعرية ليس دالاً قائماً بذاته ولذاته المغلقة ، وانما هو دال ينمو ويتشكل بأفق مفتوح في إنتاج القصيدة على وفق “ معنى يكشف الاحالة ، وفي أقصى حدّه يبطل الواقع”( الاستعارة الحية/ بول ريكور/ ترجمة د . محمد الولي/ دار الكتاب الجديدة المتحدة/ بيروت/ ط 1/ 2016/ ص 352) الدال عليه .

اذن القصيدة في “ الورد ومرايا الجسد “ ليس مجرّد تقنية ، وانما رؤية للذات خاصة ، والعالم الذي تنتمي اليه ، لهذا شاءت هذه الشعرية أن تعنى بـ “ نثرنة الدوال “ وانتهاك منظومة المدلولات عليها ، هذا على الرغم من أن نثرانية القصيدة هي الحياة التي لم يعشها الشاعر بالمجاز أو التخييل ، ويمكن التمثيل لاتجاه حركية هذا التزاوج بين (النثرنة) و(الانتهاك) بقصيدة “كرسي يسكنه الارتعاش” ، إذ تقوم هذه القصيدة بأنسنة الأشياء وشيئنة الإناسة من خلال الذات كنواة لمركز مدار القصيدة :

-نادلةُ البارِ أخلتِ الباحةَ من كرسيٍّ

وطاولةٍ نسيَ العاشقان الأصابعَ محمومةً فوقها

وعبر مناقلة زمنية ومكانية تتوهج لحظات مفارقة بينهما ، فتارة تؤنسن الأشياء ، وتارة تشيء الأنسنة :

 - نادلةُ البارِ أخلتْ الباحةَ من كرسيٍّ

وطاولةٍ نسيَ العاشقان الأصابعَ محمومةً فوقها/ ص 38

- إمرأة تبحث في الطرقات عن رفقةٍ تبدّدُ الحُزْنَ

إلتفتتْ إليكَ ،

آمالها شجرٌ يستضيف السريرُ أغصانه/ ص 38

وتمضي القصيدة في شعرنة المزاوجة بين الحضور والغياب بصيغة الإزاحة والإبدال :

 - ونادلةِ الملهى الذي تركتْ به النساء الثياب عارية من الاجسادِ

السلالُ خالية من الرمان وفاكهة الليلِ

هل انه الكلب يخشى المساءْ ؟

أم البرد يخشى وحشة التجوال في الحديقة ؟ / ص 39

ليبدأ جدل الاحالة والايحاء من خلال اللعب على مقدرات اللغة :

- إبنةُ النادل : آرنا “ التفتتْ اليكَ تسكُنُها رغبتان

أن ترى الماء في كفيّكَ

أو ترى القميص نافرا ً/ ص40

ثم يختلط الوهم بالحقيقة :

- لا تعرف أنَّ الكاس فارغةٌ

وأنكَ الذي يشربَ الهواءَ/ ص 41

ومن هنا نعود الى الـ “ كرسي “ المؤنسسن بالحضور والغياب ، وكأنه كائن حي متحرك يتنفس الحياة :

- حاصرهُ البردُ

الليلُ يسكنهُ الخوف

نادلة البار أخلَتَ الباحةَ من كرسيٍّ/ ص 38

وعلى الرغم من أن الكرسي دال تشيأ بالغياب ، فإن الغياب دال آخر يقود الى الحضور، وعبر جدل الاحالة الى الغياب والايحاء بالحضور، فإن القصيدة لم تكفّ عن إنجاز حركية الدال عليه ، وانما تنفتح على دوال أخرى بأفق أوسع .

إن هذه القصيدة وغيرها – قد تكون خادعة للحواس  وكأنها لقطات أو لحظات من سيرة عابرة على مستوى الاحتفاء بالتفاصيل اليومية لمسافر من “ بابل “ ذي إهتمامات برجوازية صغيرة عبر- ليالي حمراء ، خمر ونساء ، ملاهي ونادلات ، مدن ومطارات :

- هو الآن في الزجاجة الثالثة

لكن البيرة ...،

رأسه الآن بين اثنتين: ص 35

- هل أضاعت ليلته الدفء

بين الراقصات وحانة تتسيّد الليل فيها بغي/ ص 39

- خطاكَ تائهة بين الواجهات وأجساد النساء/ ص 44

وحتى “ الشاعر” لا يدري  لأيهما “ تكون القصيدة “ :

لـ “ سيدة مغربية “ أم لمدينة “ بريفان “ أم لـ “ داليدا “ أم لـ “ أنانا” أم لـ “ فاطمة “ أم لـ “ فاتنة تشتهي الشاربين “ أم لنساء أخريات لم يذكرهن بالأسماء ؟

وإن كانت القصيدة غير ذلك ، فما الامتياز الذي تنوء به ؟

إن قصيدة الياسري ذات نثرانية ملتبسة بدرجة عالية من الشعرية ، تجمع بين اليومي والحياتي ، في نسق جديد من الرؤية للذات من الداخل ، والعالم من الخارج ، وبازاء ذلك كله :

هل تمثل نثرانية القصيدة : خصيصة حديثة أم خاصية حداثة ؟

ذلك هو الوجه الآخر من المسألة .

ــــــــــــــــــــــــــ

* الورد ومرايا الجسد/ عادل الياسري/ دار تموز/ دمشق/ ط 1/ 2022.

**ناقد وكاتب، رئيس تحرير مجلة “الاديب الثقافية”.

عرض مقالات: