اخر الاخبار

القراءات التي يقدمها النقد تعد امرا مبررا، طالما كانت قراءة مغايرة، يكشف بها عن” بنية النص” ويلفت الانتباه الى الاستثناءات التي ترد في المتن الابداعي، سواء كان ذلك المنجز ادبيا كالرواية او فنيا كالسينما.

تتمثل مهمة النقد في كشف ما لم يفصح عنه المنجز الابداعي واخضاعه للثوابت التي يسترشد بها النقد طريقه وهو يدس مباضعه و مجساته الجراحية في جسم المنجز.

بلا شك ان النقد، هو المرآة التي تظهر السينما على حقيقتها، بلا مساحيق تجميل او اقنعة ، فالسينما منذ بداياتها الاولى كانت الابنة التي ترعرعت تحت معطف الرواية الكلاسيكية، واستعارت اسلوبها وشكلها الفني، كما في السرد الكلاسيكي الذي ينقسم الى سرد وصفي يبني مكان وزمن الاحداث فيما القسم الاخر يتمثل بالحوار، الذي تتبادله الشخصيات، متضمنا الحوار الداخلي الذي تعيشه الشخصية، هذا الشكل الكلاسيكي للرواية اعتمدته السينما في بداياتها المبكرة، نرى ذلك واضحا في الافلام التي اقتبست قصصها من الروايات، واعتمدت اسلوبها في القص بتفاصيله الصغيرة والكبيرة ، فالفصل في الرواية يقابله المشهد في السينما، كذلك الحوار فأننا لا نجد اختلافا كبيرا بينهما. النقد يعد ضرورة ملحة عندما يعتمد منهجا “متسامحا”  حين يمدد المنجز الابداعي على الطاولة، ويكشف بأدواته المعرفية عن العلاقات السرية التي تكون صورة المنجز الاخيرة ، المعرفية والجمالية، ودورها بين الكاتب والمتلقي، التي تفترض تبادلا ثنائيا فيما بينهما للمفاهيم الجديدة، ان ما بعد القراءة لا يشبه باي حال ما قبلها، هنالك افق يتسع وافكار تتغير، تلك هي القضايا التي تشكل اهتمام النقد، حينما يبلور سؤاله الجمالي القديم، وهو يحاول ان يتلقى ردا موضوعيا حول قضية الشكل والمعنى، سيبدو تساؤلا غير مجد : هل جمال الشكل يبرر ضحالة المعنى؟  يمكننا التساؤل بطريقة اخرى ونناور لخلق فضاء اوسع  لقضية جمالية نالت الكثير من الاضاءة ولازالت تستقطب الاهتمام :

هل المعنى الجميل يغفر للشكل” ضحالته “؟

كما في الرواية، يجذبنا الاسلوب الجميل الى عوالمها “ المنمقة” الا اننا نقع، وهو الامر الذي يحدث، بعد اغمارنا في المتن على معنى “هزيل” !! سيكون تساؤلا مشروعا في قولنا: من يملك الحق لكي يقرر جمال ذلك وهزال ذاك ؟ الامر نفسه يحدث في السينما،  هنالك جمال اخاذ ومبهر، نشعر ازاءه وكأننا ننال جرعتنا من الجمال، الذي يصل بنا لذروة الإحساس بالنشوة ،فما نراه يظهر لنا في غاية التناسق والكمال، من الوجوه التي تظهر التعابير التي تفصح عن مشاعر الشخصيات، الى الموسيقى التي تديم تأثير تلك الجرعة لوقت اطول وهي تملأ الفراغات بمشاعر لا يمكن وصفها بالكلمات، فالمكان الذي يشكل بنية القصة “السيناريو” وخط الزمن الذي يسرد تصاعدالاحداث، في هذه القطبية الثنائية بطرفيها: المنجز ممثلا بالفيلم والمتلقي بالمشاهد، في التناغم والانسجام البصري، هل نستطيع عد المعنى حلقة فائضة يتعين ازالتها؟

 باستثناء الرواية السينما والمسرح، يمكن للفنون الاخرى ان تناور بالشكل، وتحقق المعنى بالجمال الملتبس الذي تقدمه، سيكون سؤالا مبهما حينما نتناول موضوع الجمال في الفن التشكيلي: ما الذي تنطوي عليه مجموعة المكعبات والالوان الصارخة التي تقدم على انها فتاة متمردة ، سوى انها تدهشنا بغرابتها وتدفع بخيالنا الى متاهات اكثر صخبا مما اعتدنا رؤيته، انها في الحقيقة تصدمنا ليس الا، وتشعرنا ان احدهم كان اكثر جرأة من الاخرين، فهو يفصح عن ما لم يجرؤ احد على ذلك، كما في الشعر ثمة كلمات لا احد يستطيع فك لغزها لغرابتها، ولكنها تشعر الاخرين بالرضا والمتعة، فالكلمات التي تنسلخ عن معناها المدرك وتتحول الى كائن في سياق اخر والموسيقي التي تصاحبها تمنح الاخرين شعورا غامضا بالغبطة الروحية، كأنما الشاعر استل تلك المشاعر من اعماقنا وقال هذه هي! كما في المشاعر التي تراودك عند سماع الموسيقى، ندرك بانها اصوات لا يمكن تفسيرها، فلا قواعد لها لكي يسترشد بها الاخرون، طالما لكل شخص رؤياه التي تميزه عن غيره، باستثناء السينما لانها غير ذلك تماما، لأنها ليست شعرا ولا باللوحة ولا بالموسيقى، انها خليط من كل تلك الاشياء معا و التي تبهرنا بمكنوناتها الغامضة وتجعلنا نختبر المشاعر التي لم نعهدها من قبل، فالسينما تنطوي على اسرار تلك الاشياء و تصهرها في شكل جديد مختلف عما كانت عليه سابقا، لاحد يستطيع ان يجزئ تلك المكونات عن بعضها، ليكشف عن تفردها وتميزها خارج السياق الذي وجدت فيه، نحن نشعر بمتعة الاستماع الى الموسيقى لأنها تحيلنا الى المشاعر التي اختبرناها بمشاهدتنا لفيلم ما، كانت تلك الموسيقى” التصويرية” احدى عناصره، كما في العديد من الافلام المعروفة، الامر نفسه يحدث مع العناصر “السينمائية” الاخرى، ولكن هل يمكن لهذا الجمال التي احتوته السينما، الفيلم، ان يشفع لها فيما لو اعطت المعنى ظهرها وتجاهلته خلفها، سنجد انفسنا ننظر الى جمال خاو بلاروح، كما يحدث في افلام عديدة، تقوم بخداعنا باختلاقها لمشاعر مزيفة، او تخلق المعنى” الملتبس” الذي  يرشد الاخرين الى غير وجهتهم، او حتى يخدعهم حينما يقدم لهم طبقا من الاكاذيب المعاصرة، لترويض حنقهم على الوضع السيء الذي يحيط بهم ، هل تجد السينما نفسها مطالبة بإنقاذ الاخرين من الخراب الذي يحيط بهم، عبر خارطة تمثل طريق الخلاص عبر سيناريو لمواجهة الاحتمالات السيئة التي تعترضهم، هل يمكن للسينما ان تتنازل عن جمالها وتقدم لنا شكلا دميما يتضمن معنى كبيرا او النقيض من ذلك، كما تفعل هوليوود حين تقدم جمالا فاتنا ومذهلا متناسقا، الا انه جمال باهت بلا طعم كباقة من الازاهير البلاستيكية، شكلها المنسق يسترعى الانتباه الا انها لا تجد الشخص الذي يحبها لأنها، ببساطة شديدة، ليست سوى باقة ورد مزيفة، ندرك ان الجمال الحقيقي للمنجز الابداعي يتحقق حين ينسجم الشكل والمعنى في تناغم هرموني  يهدف الى تقديم خبرات روحية جديدة،  تشعر المتلقي بالغبطة والرضا لأنه اختبر تجربة مشاعر كانت كامنة في أعماقه، لم تكن لتتدفق لولا السينما، في غير ذلك ، حينما ينهار الشكل او المعنى، سيكون الامر محبطا، لأنها ستقدم جمالا مصطنعا سرعان ما يفقد اهتمامنا به .

عرض مقالات: