اخر الاخبار

تبدو مجموعة قصص حيدر المحسن هذه بالغة القسوة والدلالة في موضوعاتها والمصائر التي تنتهي إليها بعضُ شخصياتها؛ فهي إذ تنزل إلى قاع المجتمع العراقي لتصور بالأبيض والأسود مقاطع مختارة بعناية من واقع شخصيات وأسر عراقية ينهشها الفقر والعلاقات العائلية والوظيفية المبتلاة بأكثر من نوع من المشكلات والمصائب، فلكي تكون وفية ومخلصة لروح الفكر والرؤية السردية المعبرة عنه .  قصص قد تنتمي في بعض تقنياتها وأسلوبها إلى مرحلة سابقة من عمر السرد العراقي، مع أنها تسجل شهادات حيّة عن واقع اجتماعي ما زال قاتما وقائما بكل أنفاس أصحابه الحارة وشخصياتهم الممتحنة بوجودها في أوضاع بشرية ،اجتماعية ونفسية غير مناسبة. أوضاع  صنعتها سياسات قاصرة، وخلّفتها حروب، وتناقضات فكرية وطبقية سافرة، واصطفافات حزبية وعقائدية بغيضة، يبدو أغلب أبطالها بعيدين عنها ومنشغلين بأنفسهم عنها، مع أنهم ضحايا لها. والراوي الذي ينتقل بين بيوت وغرف مغلقة، أو فضاءات مفتوحة على أوضاع اجتماعية خانقة يختلط فيها الإحساس بالعار بالبطولة، والمشاعر الجنسية المقنّعة بجو المأساة التي تظلّل سقوف أسر وبيوت، يمتزج فيها الواقع بالحلم، والعقل بالجنون، والأوضاع النفسية المضطربة، بالحاجة إلى الانطلاق والتحرر؛ هذا الراوي يظل مدفوعًا بإصراره إلى تسجيل شهادته المبرأة من أي غرض غير الرغبة في الكشف، ورفع الغطاء عن جوانب من واقع المأساة العراقية الراهنة، التي يلتزم بعضهم الصمت إزاءها، ويجري تجميلها بأغطية وأصباغ وعناوين، تزوّر صورتها وما يرافق الحديث والكتابة عنها. وهي قصص تؤلف بالنسبة لهذا الراوي تجارب حية، تأتي ضمن متوالية سردية قابلة للامتداد والتوسّع في بؤرها الدلالية لتغطي مساحات روائية وحكائية أكبر، ولتشكل في ملامحها العامة صورا وعلامات وإشارات دالة على مرحلة تاريخية ذات حضور اجتماعي وفكري ونفسي وأخلاقي متردٍّ، قابل للفحص والمعاينة من قبل الناقد والمراقب في قطاعات واسعة من حياة المجتمع العراقي السابق والراهن. والقارئ الذي تتسرب إليه خلال القراءة مشاعرُ الخيبة وأحاسيس بنية الإخفاق المهيمنة في سماء هذه القصص مثل أقدار سماوية قديمة، لا يملك إلا أن يحمد لصاحبها الكاتب المبدع حيدر المحسن نجابتَه وأصالته التي تدفعه، شأن كاتب العرائض الشعبي السابق، وطبيب العائلة المهتم بالشأن العام، من أجل تقديم بيان مفصّل عن الأعراض والأمراض والمصائب والمصاعب الشخصية للناس الذين يستمع إليهم أو يزورهم في بيوتهم ومواقع وجودهم. وهي عودة أو زيارة يرتدّ فيها الكاتب نحو نفسه، ونحو الجذور والمنابع الاجتماعية والطبقية الأولى. والاستماع إلى البسطاء والشرفاء من الناس، وإجراء الحوار معهم، وتفهم الظروف المعقّدة التي وجدوا أنفسهم فيها ضحايا غيرَ قادرين على الخلاص منها والتحرر من مكائد لعنة الحياة التي تلاحقهم فيها، تمثل داخل البنية العامة للسرد صورة دائرية لنوع من حضور الماضي في الحاضر، وامتزاجهما للتعبير عن واقع لم تنفع كل جهود التغيير المبذولة في الخطابات السياسية والفكرية السابقة لزحزحته من مواقعه الأولى.

و(رائحة الصنوبر القديم) التي يمكن للقارئ أن يشمّها ويتحسّسها في الحيز المكاني أو الفضاء السردي الذي تتحرك فيه هذه القصص هي، في الواقع، علامة الأصالة والعراقة المنبعثة من صورة مجمل البناء فيها.

عرض مقالات: