اخر الاخبار

منذ الإستهلال الاستباقي الذي جاء على شكل جملة حوارية على لسان أحد شخصيات الرواية الثلاثة (كمال مزهر) الذي يدعو صديقه الروائي إلى عالم الكتب وإلى فضاء الشاعر المتنبي:

- ألا تريد أن تنتفع بدنياك؟!

هذه الدعوة التحريضية والمصاغة على شكل سؤال ينفتح على أكثر من دلالة وتأويل تضعنا رواية أحمد خلف (عن الأولين والآخرين) الصادرة عن الهيئة المصرية للكتاب – القاهرة، 2018 أزاء واقع كابوسي – ملغوم ومكان (دستوبي) هو مدينة بغداد ودعوة إلى لعنة الكتب والشعر والدين والسياسة والحب والشبق والارهاب والخطف والموت والأجواء السلطويّة – البوليسية والمصائر التراجيديّة وأشكال الغياب والتغييب والزنازن والمعتقلين والصراع الفكري بين أقصى اليمين وأقصى اليسار. فهل كان هذا الاستهلال هو الشفرة الفاعلة والضمنية لقراءة واقع مأزوم ومتعفن ودموي؟ وكأننا أزاء رواية من الخيال العلمي لكنّها صيغت وفق الخيال السياسي القائم على الارهاب والقتل وسحق الإنسان ومصادرة كينونته واغتيال الوطن والمستقبل ازاء القبضة البوليسية لدولة الاستبداد الدكتاتوري للحزب الأوحد وبعدها الحروب العبثية ثم الحصار البغيض وصولاً إلى ذروة التدمير الكابوسي وتداعيات الاحتلال وجعل الوطن على كف عفريت إذ تحوّلت بغداد، إلى مكان مهجور وغارق في ليل القتل والخطف والاحتراب الداخلي وكأنّ الروائي في تقديمه لسوداويّة الأحداث بسبب الإنكفاء الداخلي وسوداية الإحتلال يؤشّر وجهي التراجيديا العراقية وتوكيداً لمقولة (علي شريعتي): “لا فرق بين الاستعمار والاستحمار سوى أن الأول يأتي من الخارج في حين الثاني يأتي من الداخل”. منذ البدء يضعنا الروائي (احمد خلف) إزاء ثلاث شخصيات يجمعها الوعي وهوس الفكر وسحر الكتب (كمال مزهر/ شاعر/ وجميل حداد “سياسي ومثقف يساري”/ والروائي القادم من الشطرة). وكل شخصية تحمل خلفيّة من القمع والمطاردة والمآسي فـ(كمال) يعاني من عدم الزواج وانشغاله بالبحث عن أخيه المغيّب والمفقود أيّام الحصار في التسعينيات من القرن الماضي حين اعتقل بسبب نقد وجّهه إلى اللجنة الأولمبية الرياضية التي كان ابن الرئيس رئيساً لها آنذاك، وكان سليم لاعباً مشهوراً بكرة السلّة، حين اعتقاله: “لماذا يكذب البعض من الرياضيين ويتهورون ويطلقون عبارات تفتقد المعنى؟! وكيف يكون المبغى وما هي مواصفات إدامته؟ .. شاب لا يعوزه العقل ويطلق عباراته تلك: (لقد أصبحت الأولمبية مبغى للعاهرات وسجناً للشرفاء في هذا البلد!!)”. فماذا يتوقع من ردود أفعال قاسية يعرفها الجميع؟ “كان شحوب الوجه وذبول الجسد قد اعتريا سليم بعد ساعات من نطقه تلك العبارة المدويّة التي تلفظها في النادي الرياضي”. (ص31). اعتقل سليم بعدها وغيّب وظل مصيره مجهولاً في حين ظلّ أخوه الشاعر (كمال مزهر) مشغولاً بالبحث عنه وبمصيره وظلّ يبحث عنه حتّى إلى مرحلة ما بعد الاحتلال في السجون والمقابر والقصور الرئاسية دون جدوى. في حين يكابد المثقف اليساري جميل حداد تأريخاً من المطاردة والاعتقال والإقصاء بعد أن اختطف أيّام ما يسمّى بالجبهة الوطنية وتكليفه من قبل رجال الأمن أن يكون جاسوساً على رفاقه في جريدة طريق الشعب واعتقاله مرّة أخرى من مدرسته وظل شريداً مستلباً مطارداً بسبب وعيه ووطنيته وعشقه للأدب والكتب وتمجيده للحريّة والانعتاق... وتلك هي الهواجس الحقيقية التي تعتمل في أعماق شخصية البطل المركزي (الراوي/ والروائي) الذي يمثّل السارد العليم والبطل المشارك والفاعل في الأحداث وهو ينحدر من قضاء (الشطرة) ليقيم في فندق شعبي (فندق أبو صباح) في الحيدر خانة في بغداد، ويعمل في شركة وتعمل معه الموظفة (هند) التي يعشقها ولا يجد القدرة على الزواج منها وحبّه لـ(وداد) التي تعاني مأساة بعد أن تحوّل زوجها (عبد الواحد) من رجل علماني الى داعية ينشر الرعب الديني والفتاوي البائسة: “في المرّة الأخيرة عندما كنا معاً، كانت زميلتنا، بسبب محنتها مع زوجها عبد الواحد الذي أصرّ على الانفصال عنها فقد أتخذ قراره بالطلاق منها... كانت مطالبة لا تنتهي، في كلّ يوم لديه مطلب تهتزّ له الأرض، بارتداء الحجاب خلال ساعات العمل أو حين أكون في الطريق أو السّوق باختصار كان ارتدائي للحجاب مطلب منه. ولا تراجع لديه عن قرار يتخذه”.

وهذا جانب من جوانب تراجيديا المرأة في ظل الحروب والتقلبات التي طالت الشخصيات فتحوّل الزوج (عبد الواحد) من علماني إلى شيخ يطلق الفتاوى المجحفة، ما يؤشر الخراب الذي شهدّه الواقع عن طريق هذه التحوّلات البغيضة ونجد عدة صور لهذا الإرتكاس والنكوص (السيوسيولوجي) والسياسي و(السايكولوجي) الذي يهيمن على أجواء الرواية وثنائية الصراع بين ما هو معرفي وجمالي وإنساني وبين ما هو قمعي وكابوسي والذي تمثله السلطات الاستبدادية والمؤدلجة والمتحالفة مع الاحتلال ومدى تأثير هذا الصراع على سحق المجتمع وتشويه صورة المرأة ويمكن الانتباه إلى رمزية اسم (عبد الواحد) وخلفيته الميتافيزيقية. شخوص الرواية محاطون بالعتمة والاستلاب والقمع، وأجواء الرواية أجواء بوليسية – كافكويّة، الكل فيها يحمل عبء المعاناة والانسحاق سليم مغيّب بسبب رأي في مؤسسة رياضية كانت تمثل وجهاً أو مركزاً من مراكز السلطة. وكذلك طال التغييب والفقدان شخصيّة (شفيق) ابن خالة (هند) وزوجها المرتقب في الحرب العبثيّة، حرب الثماني سنوات ولم يُعرف مصيره واختطاف أبيها (محمد أبو الصوف) التاجر بالجلود من سوق الشورجة أيام الاحتراب الداخلي (2006) من قبل مافيات الخطف وعلى الرغم من محاولة ابنه (فائز) لدفع الفديّة غير أنه لا يسلّم إلاّ جثة هامدة وهي إشارة (تسجيلية) لما وقع في بغداد وبقية المدن من ظواهر إبّان مرحلة سياسية سادها الهوس والوحشية والقتل المجاني والصراع الهويّاتي. وتتجلى صورة المرأة في الرواية بنموذجي (وداد وهند)... فالأولى كانت ضحيّة الإستلاب الذكوري التسلطي ومعاملتها كجارية وفرض الحجاب والتقوقع عليها في زمن لم يكن الحجاب شائعاً، على الرغم من أنها موظفة في شركة... والثانية (هند) التي عانت الضياع والإستلاب (السايكولوجي) والعنوسة وتصل كابوسيّة الرواية وواقعيتها الصادمة بذكر الشخصيات الأدبية المعروفة والأسماء الصريحة (مثل مأساة الشاعر كمال سبتي وعقيل علي) وذكر أسماء مثل (بتول الخضيري) وشهيد المسرح (هادي المهدي) و (زاهر الجيزاني) وهي اشارات دالة وذكر روايات وكتب (لميلان كونديرا) ورواية (اسم الوردة) و (تشيخوف) و (نجيب محفوظ) تتردد في ذهن الشخصيات وذاكرتهم كإشارة سيميائية على أن الشخصيات تمثل طبقة المثقفين (الانتلجنسيا) وصدامها مع النسق الاستلابي للسلطات المتواترة وعنف الحروب ومحاربة التنوير الثقافي ولذا نجد التبئير المكاني ينطلق في شارع المتنبي ليمتد إلى ساحة التحرير ونصب الحريّة وإلى دهاليز البتّاوين التي تشهد نهاية الرواية الصادمة. فالمكان بوصفه علامة سيميائية كان في الرواية أحد محاور التراجيديا التي سحقت الشخصيات من دون هوادة وكأنهم في عاصفة لا تنتهي من الخراب والضياع وعتمة المصائر ومجهوليَّة المستقبل وهي انفتاح مساحة من الإسقاط والتأويل ليشمل مفهوم أو مساحة جغرافيّة وتاريخية تجسد ضياع الوطن أزاء أقدار تشبه الأقدار الإغريقية في التراجيديات اليونانيّة وهذه صورة كأنموذج :

“في تلك الأيام ساد الجوع وامتدت أذرعه الأخطبوطيّة لتشمل الملايين من البشر، امتد الجوع والحرمان وكذلك العاهات التي يولّدها نقص الغذاء وقلّة الدواء كلّها انتشرت علانيّة مما ولّد الضغينة ضد الحكومة الساهية عمّا يعانيه البشر”. (ص11). وتصف الرواية ببلاغة صادمة أحداث المنعطفات البشعة التي جاءت مع المارينز والقوات الأمريكية الإحتلالية وقتل الناس في الشوارع. في الجانب الفني استخدم الروائي التقنية (البوليفونية) (التعدد الصوتي) على الرغم من هيمنة السارد المركزي المتمثل بشخصيّة الروائي القادم من الجنوب ويحمل وعياً وذاكرة وقدمته الرواية على أنه الشاهد والمستهدف في آن واحد لكنّنا نجد (مونولوجات) فردية تقدّم مساحة من القلق والتشظّي الذي تعانيه الشخصيات الأخرى. نلحظ اهتماماً وبراعة في توظيف الحوار للكشف عن أعماق الشخصيات والتعبير عن وعيها وتحسسها وتمردها ونقدها لما يجري من حولها من أحداث صاخبة وطاحنة، لنتبع هذا الحوار بين الروائي والشاعر كمال مزهر:

“قلت له متسائلاً – والإنسان؟

- الإنسان تم تهديمه والقضاء على آماله وأحلامه؟

- ومن سينقذ الإنسان؟

- الدين والإيمان يمكن أن ينقذا الإنسان؟

- والعلم ألا يكفي العلم مقدرة على خلق حياة طيبة له؟”.

تركز الرواية على موضوعة استلاب الإنسان وقمعه وسحقه سواء بالإرهاب البوليسي السلطوي والحروب العبثية أم الاحتلال وقبله الحرب الاقتصادية ممثلة بالتجويع والحصار حتى يتحوّل أبطال الرواية إلى ضحايا وكلّ محاولة يبادرون بها للتغيير والإنعتاق يزدادون ضراوة في العتمة والقهر والنكوص حتى (الهجرة الداخلية) أو محاولتهم إيجاد شقّة مشتركة للروائي/ والشاعر والمثقف السياسي للتخلص من اللاّمكان والضياع وهي صورة أو ترحيل سيميائي لفكرة البحث عن الوطن داخل الوطن والبحث عن التغيير ومحاولة الإفلات من ضغط الظروف العصيبة المتناسلة لكنّهم يصدمون بأن الموت وليل القتلة يلاحقهم أينما توجّهوا وترحّلوا فيحاصر الراوي داخل الشقة قرب ساحة النّصر، إذ ليس هناك سوى أشباح ووقع أقدام المنفلتين والملثّمين والمأجورين، ويرسل الروائي إشارة للموت بذكر القتلة وبحثهم عن الشخصية المسرحيّة المعروفة التي اغتيلت في إحدى الشقق لحراكه التظاهري وصوته المدوّي للمطالبة بالكرامة والعدالة والحرية والمطالبة بوطن آمن معافى كبقية الشعوب والأوطان وإدراك الروائي المحاصر داخل الشقة الجديدة بوطأة الموت وهو ينظر بغرابة المشهد الذي جاء (بهند) في هذه الساعة الغريبة التي تشبه القدر ويتحول الأبطال من حضورهم الإنساني إلى التحاقهم بعوالم الموت والفقدان والمصائر المجهولة: “ما الذي فعلته لكي يقتص مني الغرباء ولماذا (هند) حبيبتي تعينهم على التخلص منّي؟ ألم يكن الأولى بها أن تتصل بي قبل قدومها الآن؟

طيب ولماذا لم يتصّل (جميل حداد) قبل هند؟ وإلى متى سأظل أنتظره... هل ساعيش وسط هذه الفوضى؟

يكاد القلق يأخذ منّي مأخذا ويسلب إرادتي سأنتظر (هنداً) لتطرق الباب أولاً، - مع أني لم أرها

الآن تنحرف باتجاه أحسبه الاتجاه الذي أقف به ...

لا أعرف شيئاً سوى الانتظار .. فقط؟”.

نتلمس جوانب هذه الخاتمة والحصار المأساوي، وهو رمز لكابوسيّة المكان (الديستوبي) وهو مشهد يختزل مأزوقية الأبطال في واقع استلاب وظلامي.

وظّف الروائي تقنية (الرواية داخل الرواية) أو ما يسمى بـ(الميتاسرد) من خلال اهتمام شخصيّة (الروائي) بكتابة رواية طالما سأله عنها صديقاه (كمال) و (جميل) وأفصح عن نيّته لتسجيل الأحداث في رواية توثّق ما جرى وما يجري عالم مضطرب يقترب من الوجع السريالي:

“اخبرني كمال أنك تشرع منذ أسابيع مضت في كتابة روايتك المنتظرة.

- نعم هذا صحيح لأنّي أحاول الكتابة.

- وماذا سيكون عنوانها؟

- لست أدري ولكنّها سوف تتعرض للأولين والآخرين!

- آه... عرفت المرمى الذي تهدف إليه.

- ليس إدانة الجميع ولكن الكشف عن طبيعة ما جرى وما حصل.

وتتجلى قدرة الروائي في المزاوجة بين المصائر الفرديّة لشخصيّة المثقف بوصفه شاهداً وقربانا وبين الواقع الموضوعي والتاريخي الذي أصبح (الباك – راوند) أو الخلفية التي تسهم في تأطير الحدث التراجيدي وتحوّلاته وعنيت الرواية بنزعة التوثيق والروح التسجيلية لما حدث والواقعية الصادمة تماهياً مع التوكيد على المكاشفة والاحتجاج.

عرض مقالات: