اخر الاخبار

تؤسطرني رغبة خضراء من أجل فهم حقيقة ما جرى ويجري في عالم صار التكهن في خط سيره معجزة، والرؤى في باطنه مشقّة، وقراءته تتطلب فهم أبجدية لغة مندثرة. وعلى الرغم من ذلك فهواجس الأمس تقول: العارف، لا يستسلم لخطيئة الظلام، مادام الوصول إلى مدن الفجر رغبته الدائمة. ولهذا يمضي الشاعر والفيلسوف وكاهن المعبد، ومدون اللوح، وأمين مكتبة قصر الملك ومشرع القوانين وجلاس الأنبياء من حواريين ومتعبدين، يمضون إلى بيت الحقيقة ليسكنوا فكرة واحدة: إن النور هو المعرفة كلّها، وسيكون رغيف الخبز هو القلم الذي ندون به هذه المعرفة.

وعندما يتصل الأمر بالموت، فإن متغيرات القلق في بواطن التخمين تقول لي: هو الموت، الحياة في ديمومتها، وحين أعود إلى قلق خواطري مع الفتى المندائي القادم إلى ينابيع الدم في أوردته البعيدة.

أقف عند حيرة السؤال: هل نحن هنا نستكشف ما يختبئ فينا، أم أننا نريد أن نقول للعالم: هكذا نموت نحن.

ويبدو أن مهمتي الآن هي أن أعلّم سنان الذي نصحته الذهاب الى مدن الاجداد وقراهم  دروس الرؤيا، ومعرفة التواريخ الّتي أتى إليها، فلقد غفل عنه صديقي في لحظة، وانساق بهوس مجنون ليبحث عن النهايات الميتافيزيقية الّتي تنتهي إليها أرْوَاح أبناء بلاده، لأنه فصل في معنى الموت وسببه ونتيجته، أردتُ أنا أن تكون نهاية ملمتنا هذه هي دروس من تباريح وأطاريح، وشيئاً من صوفية العودة إلى البدء، فلربّما حين يشعر سنان في مثل هذه الخواطر أن ينجز شوطا كبيرا من رغبة أبيه ووصيته.

كان هبوط آدم آتٍ من وعي ورغبة من أجل صناعة خليقة، فنقرأ من بعده تواريخاً لا تنتهي من ولادة الجغرافيات والأماكن والمدن، وكلّها تجتمع في آنية حضارة لها طبيعة وكيان تتفرد فيه عن الحضارة الأخرى. هذا يعني أن ظلّ آدم يتشظى إلى ملايين الظلال، لكن أطراف ردائه الكريم ظلت تلتصق بكلّ تلك التنويعات كما يلتصق القمر بأجفان الليل، وكما العطر بجسد الوردة، وكما الرضيع بحلمة النهد.

(هنا عليك أن تعرف يا سنان، أن المسوّدة أرادت أن تلهينا في موسيقاهاالحزينة، عن لهفة عشق جغرافية أمكنتنا يوم يشدنا الحنين إليها، حتّى عندما تكون الخرائط متألمة من الشظايا ومراثي موت طيور الكناري، وابتكار طشوت الخردة، وباختصار أنا من أجلك أريد أن أمزج روحاً شفافة بين حلم غرام في سمر قند، ومضاجعة بين فقير سومري من أصل مندائي مع حورية من حوريات دلمون، و في نهاية الفصل أخطط لكتابة نشيد الحياة والموت في دلمون، رداً على تلك الشعائر الطقوسية الّتي صدّرها إلينا حلمنا السومري الذي ارسلته الآلهة  بطرد  بريدي.).

أتخيل الإنسان الأوّل، من خَلفَ آدم (ع) بعد موته. عارياً إلا من ذاكرة متسعة وبدون حدود لذهن المكان المسوّر بطابوقة البيت. مدى مفتوحاً، وتعبيراً تسكنه الإشارة، وطبيعة تزخر بالغموض والخوف والرهبة.

شمس تسطع بقوة، فتتغير في مواقيت الزمن، ليل يهيمن عليه وجلُ السكون، وظلمة مكتئبة وسماء لامعة بأضوية برّاقة بعيدة، فيما تظهر خيوط الهلال الأصفر، ولتتحول بعد ليالٍ إلى دائرة من ضوء مبتهج، ربما يستطيع ببهاء ومغرياته الصفراء أن يدفع السكون والاطمئنان إليه، ويغفو قليلاً غير مذعور من عواء قريب، أو هسهسة مخلوق ما لا يعرف حتّى اسمه وطباعه. وعلى الرغم من هذا كان مجيء الصباح المتكرر هو مساحة الأمل الأولى الّتي رسمت بعض مشاعر الاطمئنان والفرح لديه، لهذا كان يمضي إلى التأمل في الموجود العالي ويتخيله بصور شتى.

هذا التخيل أنساه إشارات وكلمات الأب الأوّل، لتظهر الرغبات الجديدة مع كشوفاتها، بعون من الحجر، وإغراءات الأنثى وتعلم التدجين. وهكذا مشت الحياة إلى مراحلها الأخرى، لتصل إلى خواطر الدبابات والصواريخ، وقهقهات مايكروسوفت.

انتبه يا سنان، فإنّ ما اكتبه الآن هو ما أتخيله عن أزمنة عاش فيها أجدادك يوم قبلوا أن يصعدوا مع إبراهيم في رحلة من أور إلى مدن أعالي الفرات، ولا شأن لك بما رسمه لك صديقك في رحلتك، وعلى الرغم من أنه هو الذي ابتكرك، لكني أخذتك منه عنوة وأصبحت من حصتي).

كان البدء الذي خلق الوعي من خلال الخيال والانشداد إلى سقف السماء ومكوناته الرؤية الأبدية لكل خيارات الحضارات، مهما سارت إلى الأمام وصنعت عولمتها بطرائق شتى، ما بين الاحتلال والغزو الثقافي وحمى وسائل الاتصال، فليس هناك أروع من ذاكرة بابل وأور وهي تصف البدء من خلال فم الأسطورة، وتعجنه بتخيل جميل لنجد قراءتنا أمام مذهل حقيقي لا تعوضه أحدث برامج الكمبيوتر ولا أجمل سيناريوهات الافلام. فالذي كتب الخليقة السومرية والبابلية وملحمة جلجامش، هو عقل متفرد لم يتكرر حتّى في شبه لراوٍ عظيم أنجبته الأرض منذ هوميروس وحتى نجيب محفوظ.

إن الذي كان يتلقاه الإنسان من مؤثرات الطبيعة وانعكاساتها، كالضياء الليلي ونور الشمس وحركة موجة النهر، واندفاع صدر الأنثى، يحوله إلى فعل لإتمام حاجة وغريزة نمت فيه بفعل هذه المؤثرات، أي أنها كانت تؤجج فيه الرغبة والمشاعر وتجعله يبحث عن الذي يسكن هذا الهوس الذي تصنعه تلك الرغبات فأتت تلك الأخيلة بمبدأ (الحاجة أم الاختراع).

(نعم يا بني، يخبئ كهنة الطائفة في مكان سري قد لا يعرفه سوى كاهنهم الأكبر واسمه (ستار جبار حلو )، يخبئون ألواحاً من الرصاص فيها تكوينات اللغة الأولى وإشاراتها هو الإحساس الأوّل المتبادل بين الانسان والسماء، وهناك النصوص الّتي تتحدث عن المشاعر، وكم حاولت تلك الألواح أن تتحاشى الحديث عن الموت والقتل بالسيف، لكنها نوهت عن ذلك بقولها، ليس كلّ الموت يأتي بتقادم السنين، هناك موت يأتي به لدغة عقرب .

غير أن الهاجس الميثولوجي (الأساطير) يكاد أن يكونَ ردّة الفعل الأولى الّتي صَد بها الأنسان الأوّل هذه المؤثرات والرغبات حين شعر بأنه اكتشف شيئاً يستطيع فيه أن يخلق التواصل والتفاهم مع الآخرين الذين يعيشون معه في القرية الأولى حين اكتشف الحرف. وبالحرف كتب القصيدة الّتي كانت في بدايتها حمد لشيء عظيم يحسّسه أنّه موجود في العلا وعليه أن يثبت ولاءه له، وَمثّل تطور هذا الولاء من مقطع شعري قصير، إلى نص مؤسطر بخيال التكوين ومكتوب بلغة شاعرية، وخيال جميل وإيقاع موسيقي ممتع (فكان أن ولدت الأسطورة) وأولها ما تخيله الإنسان كيف ولدت خليقته، ومن وضع الأرض والسماء، مع الشعور الدائم بالإحساس، إن ثَمّة مسيطراً واحداً على هذا الكون يرمز له بالكبير العظيم. كما الإله (آنو) عند السومريين، والإله (مردوخ) عند البابليين. وكما يرد في أسطورة الخلق البابلي، في نصوص تتحدث عن التفكير البشري الأوّل في قناعة كيف ولد الكون كما نراه في اللوح الخامس من قصة الخليقة:

((بعد أن أوكل بالأيام شمش

وفصل بين حدود الليل وحدود النهار

أخذ من لعاب نعامة، وخلق منها مردوخ

خلق منها الغيوم وحملها بالمطر والزمهرير

دفع الرياح وأنزل المطر، ومن لعابها صنع الضباب

-----------------------

* ابن الراحل الدكتور عبد الجبار عبد الله، الباحث والكاتب التقدمي/ اول رئيس لجامعة بغداد. سنان يقيم الآن في كندا وهو احد شخصيات رواية “العودة الى مدن الكنز ربا” لكاتب هذا المقال.

عرض مقالات: