اخر الاخبار

الموت بأحد النقيضين

في رواية الكوني مشهد مؤلم من مشاهد الموت (بأحد النقيضين) أي الموت بغدر السيول، عدت إليه بعد أن رأيت مشاهد الموت المرعب بالسيول الهادرة، وهي تكتسح كل شيء يعترض طريقها وترمي به في البحر، وقد حصل في مكان واقعي، وليس في المكان السرد الروائي، لكن الفرق بين المشهدين، إن مشهد (الكوني) كانت السيول العاتية فيه ترمي كل ما يعترض طريقها في هاويات الوديان العميقة، بين سلاسل الجبال الصحراوية.. أما في (درنة) فإن السيول ترمي ما تحمله من جثث بشرية، وصخور وحيوانات في فوهة (جحيم دانيال) العاصف، أي من الماء الهادر الى الماء الثائر.

أما في مشهد (نزيف الحجر) فإن (أسوف) يخبرنا بمشهد روائي (رحلة الجسد) يقول في تفاصيله: قبل الجفاف أغرقت السماء أودية الصحراء بالسيول، سيول فاجأتهم، وجرفت العجوز (أم أسوف) من الكهف، ليجد بقاياها في (ابرهوه) بعد ثلاثة أيام.. وقد مزقت الأحجار أعضاءها في تلك الرحلة الطويلة.. الرأس مهشم عارٍ من الشعر، الأشجار نتفت الشعيرات الفضية القصيرة على رأسها الصغير ولم يبق على الجمجمة سوى شعيرات متناثرة، متباعدة، تعلوها طبقة من الطين. العين اليمنى سقطت. التهمتها الأحجار في الرحلة الوحشية، وبقي مكانها شاغراً، فاغراً فاهاً. المقلة الأخرى تلمع وتحدق في السماء. وجد مع الرأس جزءاً من الرقبة تعلوه طبقة من الطين، الطين تيبس على الدم. أما الأطراف الأخرى.. الأيدي والأرجل وبقية الجسد فعثر عليها متناثرة على طول الوادي، خلال مسيرة الثلاثة أيام، ممزقة، مجرحة، كأنها قطعت بطعنات سكين. اليد اليمنى ما زالت تمسك بأشواك الطلح قبل أن تنسلخ عن بقية الجسد، الأحجار الوحشية نهشت اللحم... حاول أن ينتزع الشوك من القبضة الجنونية فلم يقدر. تساقط اللحم المتحلل، ولكن الأصابع العظيمة ظلت قابضة على اشواك الشجر بعناد، قبضت على الشجرة في اثناء دحرجة السيل لجسدها، متشبثة بها. ولكن قوة السيل المجنونة انتصرت على الرغبة المجنونة في التنفس

والحياة. انفصل الجسد عن الذراع التي بقيت ممسكة بشوك (النجاة) شوك الحياة.. إنها في (الحالة الثالثة)، كما يقول أسوف. في الوادي الواسع الطويل لم يعثر على بقية الأطراف، كان إذا وجد طرفاً دسه في المخلاة، وخرج الى المرتفع يحفر له قبراً ويدفنه، حتى قامت للشهيدة خمسة قبور على مسافات متباعدة.

 

«الحالة الثالثة» في الفلسفة الصوفية

استند الكاتب في معظم احداث الرواية على الفلسفة الصوفية، وخاصة في الأحداث التي يكون فيها الموت محتوماً، وقد وصف (أسوف) تشبث العجوز بأغصان شجرة وهي تتدحرج فوق اسنان الصخور، ظلت ممسكة حتى بعد أن انفصل الذراع عن الجسد، ولم يستطع أسوف أن يخلص هذه الأغصان من قبضتها. وهذه المقاومة المتشبثة بالحياة، هي (الحالة الثالثة) بين الحياة والموت. وهذه هي الحادثة الأولى، التي رآها (أسوف) عند أمه العجوز.

وقد استخدم السارد سرده بعض المصطلحات الصوفية (كالنشوة والوجد) والمعتقدات عن الخالق، فقد سأل الوالد ابنه (أسوف) مرة: (هل تعرف أين الله؟) أشار بأصبعه وقال: (في السماء) ضحك الوالد حتى استلقى على قفاه، وقال مشيراً الى صدره: «الله هنا، وليس في السماء». ثم تمتم كإنه يخاطب نفسه: « في القلب، معناه، فينا». ثم رفع إليه نظرة: «يكفي أن تجيب إذا سئلت، إنه في القلب.. إياك أن تخطيء، في القلب».

والأهم في الفكر الصوفي، هو إيمانهم (بالحلول)، أي أن الله يمكن أن يحل في جسم الإنسان، أو أن روح الإنسان يمكن أن يحل في الحيوان بفعل القدرة الإلهية، وهذا ما أوضحه (أسوف) وهو في (الحالة الثالثة) حين أنقذه ذات (الودان) الذي ألقى به في الهاوية العظيمة. يقول أسوف: «الجني الذي أنقذ حياته ما زال يخطو في العراء، المغطى بالأحجار ببطء وصمت وهدوء. حاول أن يتبينه في عتمة الفجر، أغمض عينيه، وفتحها عدة مرات قبل أن يركز في الشبح الصبور.. رأى ملامح. يا ربي، إنه الودان، ضحيته، جلاده. من منهما الضحية؟ ومن منهما الجلاد؟ من منهما الإنسان؟ ومن منهما الحيوان؟ ثم توقف (الودان) العظيم عن المشي. رآه يرفع رأسه الضخم المتوج بقرنين خرافيين، ويواجه ذلك الخيط الغامض، الذي يبشر بالفجر، وفجأة، وفي عتمة هذا البصيص الرباني رأى أباه في عيني (الودان) الصبور العظيم، رأى عيني الوالد الحزينتين الطيبتين، اللتين لم تفهما، لماذا يؤذي الإنسان أخاه الإنسان... في مكانه المكسو بالأحجار الشرهة، صرخ بصوت مخنوق كأنه يناجي ربه: أنت أبي. لقد عرفتك. انتظر. أريد أن أخبرك.. أغمي عليه».

هذه صورة (الحلول) في الفكر الصوفي الفلسفي. وخاصة في تداعياته الأخيرة، حين تحوَّل الفكر الصوفي الى (تكايا، وزوايا، وأولياء لله، ودراويش، وطرائق).

هناك آراء غربية وشمال افريقية تشير الى أن شمال افريقيا أنزل الصوفية من عرش الفلسفة السماوية الى أرض الحياة اليومية. ففي هذه البلدان – كما يذكر السارد فضلاً عن رأي كاتب فرنسي – خلاف المشرق، لا تستطيع أن تميز بين الشيخ الحكيم أو الدرويش الأبله، أو الولي الصالح، لأنهم يشبهون جميعاً المتسول المتشرد، ويتوصل الكاتب الى أنهم جميعاً يشبهون المتسول المتشرد. ولذلك فإن الصوفية هنا – كفلسفة باطنية – هي أقرب منها الى البوذية، إذ لا فرق بين الإله في السماء، والمتشرد على الأرض، طالما لا يجد الإله حرجاً في أن يتخذ من باطن هذا الأبله مأوى له.

 

حادثة الحلول الثانية

بدأت الصحراء والجبال بالجفاف التدريجي حتى (أُمتص آخر أمل لنباتات الأودية في الحياة). بدأ القطيع يهلك. لم تجد الأغنام ما تأكله، فبحثت عن الروث في الصخور، وأكلت فضلاتها سنوات السيل، لكنه لم يغادر الكهوف، ويترك جبال (أماكوس) البعيدة، إلا بعد أن نفقت آخر معزاة...وحين أضطر أسوف النزول الى الواحات اعتقله رجال الكابتن (بورديللو) الإيطالي، وجدوه يجلس تحت جدار في (سوق الحدادة) يلتفظ أنفاسه من الرحلة الطويلة.

وضعوا القيد في يديه وساقوه الى الحامية الإيطالية. التقى بجماعة من المعتقلين ينتظرهم الكابتن المجنون ليدربهم ويحقق بهم أحلامه في غزو الحبشة.

في الطريق حدث ما تناقله الأهالي، ونسجوا حوله الأساطير، قالوا إنهم رأوا المعجزة لأول مرة في حياتهم.. شاهدوا إنساناً يفلت من الأسر (ويتحول الى ودان، ويعدو نحو الجبل، يتقافز فوق الصخور في سرعة الريح غير عابئ بمطر الرصاص، الذي ينهال عليه من كل جانب. فهل رأيتم إنساناً يتحول الى ودان؟ هل رأيتم إنساناً ينجو من رصاص الطليان.. يذكر السارد، بأن الصوفيين هزوا رؤوسهم من (الوجد) وألقوا البخور في النار، وأجمعوا: « إن ذلك ولي من أولياء الله». وفي الليل ذهبوا الى الزاوية، ونظموا حفلة (ذكر) (جدبوا فيها حتى الفجر) إكراماً للولي، وفرحاً بحلول الذات الإلهية في المخلوق الأرضي البائس.

 

النحس والشعوذة

شخصيتان مهمتان في (نزيف الحجر) قابيل (النحس) وصديقه مسعود، تميز قابيل بالنحس، وأكل اللحوم يومياً، ولم ينم إذا لم يأكل اللحم. أما مسعود فهو صديق وفيٌّ لقابيل يرافقه دائماً، ويحاول أن يوفر متطلباته من اللحوم.. قابيل تميز بالنحس، وهو في بطن أمه.. عندما حبلت به أمه مات الأب مطعوناً بسكين، وماتت الأم بعد ولادتها بأسبوع.. تبنته خالته، وسقته (دم الغزال) في إحدى الرحلات بالحمادة الحمراء، عملاً بنصيحة (أحد الفقهاء)، ولكن الخالة وزوجها ماتا عطشاً في تلك الرحلة.. والتقطت قافلةٌ الطفل الرضيع، وهو يحشو رأسه في جوف الغزال، ويلعق الروث والدماء من البطن المبقور. ولم يلتقط صاحب القافلة الطفل لو علم بماضيه، ولم يعلم أن يكون سبباً في نكبته. بارت تجارته واستولى قطاع الطرق على قطعانه، ونهبوا قافلة له متوجهة الى تمبكتو.

هنا استعان الكاتب بحكمة أهل الصحراء: « من فطم على دم الغزال في الصغر لن يستقيم حتى يشبع من لحم (آدم) في الكبر». وبعد حكمة أهل الصحراء، بدأوا يفكرون بالسحر والشعوذة لتخليص قابيل مما لحق به من (نحس) فلجأوا الى العرّاف لعمل حجاب أو تعويذة، أقتنع العراف وعمل الحجاب، وحين ضاع الحجاب حضر النحس وعاد قابيل لأكل اللحم النيئ.

ومن خلال السرد التقى (أسوف) بقابيل ومسعود، فتوجس أسوف أمراً خطيراً، إنهما قادمان للصيد، وحين توقفت سيارتهما بالقرب من (أسوف)، فبادرهم بالسؤال: هل أنتم سواح تبحثون عن الآثار؟ سأدلكم على آثار لم أدلها للأجانب. استهزأ به قابيل وبالآثار. إنهما جاءا لصيد (الودان). أمر أخاف (أسوف)، لأنه (نذر) نذراً ألا يقتل (الودان أو الغزلان) ولا أي حيوان آخر، لأنه اقتنع بعد حادثة (الهاوية) وكيف أنقذه الودان منها، بأن أكل لحم الحيوان لا يختلف عن أكل لحم الإنسان. وظل (أسوف) على قناعته هذه رغم الخوف والتهديدات من قابيل ومسعود. أسوف ينظر الى الصحراء، والجبال الصحراوية، وما فيها من ودان وغزلان، وآثار، بأنها جميعاً في حمايته وحرصه عليها، هو موظفٍ مجاني، رفض أن يستلم مكافأة من مصلحة الآثار، مثلما رفض أن يستلم راتباً شهرياً كأي حارس حكومي.. هذا الإنسان ينحره قابيل كما ينحر الودان في آخر المطاف. قابيل عمل في خدمة الايطاليين لكي يعينوه على اشباع نهمه من ثروة بلاده، وهو مستعد لاستباحة وطنه من قبل الايطاليين المحتلين، ومن قبل الأمريكيين وشركاتهم الباحثة عن النفط في الصحراء الليبية.. وبالفعل فقد أخذوا ما يريدون وطردوه، كما يطرد الكلب السائب.

الرواية تتحدث عن طبائع الإنسان في الصحراء والواحات، طبائع الحيوان، مثلما تتحدث عن قساوة الحياة وآلامها في هذه البيئات اليابسة «حيث امتص القيض آخر قطرة ماء في شرايينها». فالحكمة عند من عاش هذه الأجواء تقول: «إن الصحراء مقتل الودان، والجبال مقتل الغزال. والماء زاد الحياة في الصحراء، وابن الصحراء يجب أن يتسلح بالصبر والحيلة لكي يقاوم النهايات المحتومة». والشيخ جلول يقول حكمة يستشهد بها الأمريكي جون: « إن الماء يطهر الجسد، والصحراء تطهر الروح». الصحراء الليبية – أي الصحراء الكبرى جف ماؤها منذ القرن الأول قبل الميلاد، كما ذكر السارد، مستشهداً بالمقطع التالي للشاعر الروماني (أوفيديوس): « ليبيا تَصَحَّرت، القيض اختلس الرطوبة، فناحت الحوريات، مهدلات الشعور، وَنَعَيْنَ جفاف الينابيع والبحيرات».

هذا المقطع يسجل بداية الجفاف والتصحر التاريخي للأرض الليبية. ونحن اليوم نتخوف من تصحر العراق، الذي بدأت ملامحه بالجفاف الذي يضرب النهرين، مساحات واسعة من أرض العراق، بالإضافة الى انتشار الأخبار المخيفة التي تنطلق همساً أو جهاراً عن حقيقة هذا الجفاف والتصحر... ولكن قياساً مع الزمن قد يتحول العراق الى صحراء، كالصحراء الكبرى شمال افريقيا بعد ألفي عام مثلاً.

وحين نحر (قابيل أسوف) فوق الحجر، الذي انطلقت منه احداث الرواية، اختتم الكوني روايته بالمقطع التالي: « تقاطرت خيوط الدم على اللوح الحجري، فوق اللوح المدفون الى نصفه في التراب كتب بـ (التيفيناغ) أي ابجدية الطوارق الغامضة التي تشبه رموز تعاويذ السحرة في كانوا عبارة: «أنا الكاهن الأكبر (متخندوش) انبئ الأجيال، إن الخلاص سيجيئ عندما ينزف الودان المقدس، ويسيل الدم من الحجر، تولد المعجزة، التي ستغسل اللعنة، تتطهر الأرض، ويغمر الصحراء الطوفان».

استمر نزيف الحجر على اللوح المحفوظ في حضن الرمل. لم يلحظ القاتل كيف اسودت السماء وحجبت السحب شمس الصحراء».

وهكذا يختتم الكاتب روايته، حيث تتقاطع الأسطورة مع الرواية، والجن مع الأنس، والواقع مع الخيال، والماضي مع الحاضر، والتراث مع التاريخ، والعقائد مع العادات، والدين مع الفلسفة، والصوفية مع البوذية، والواقع مع الخيال، والحقيقة مع الوهم، والحياة مع الموت، والخرافة مع الحقيقة. كل هذه الأمور كشف عنها الكوني في (نزيف الحجر) بما في ذلك الخرافة والخيال والحقيقة.

ويمكن أن نختصر ذلك بجملة لنجيب محفوظ: «نحن نوهم القارئ بحقيقة ما نقول» ولكن هذا لا يعني بعد الرواية عن جذرها الواقعي. فالروائي بعرضه لروايته يستطيع أن يقنع القارئ بحقيقة ما يقول، لأن قوله مرتبط بجذر واقعي حدث أو يمكن حدوثه في الحياة اليومية.

أما الدكتور ديمتري مترجم الرواية وناشرها فيقول: « استطاع القرن العشرون، الذي يشارف الآن على الانقضاء، أن يعطي نماذج رائعة في الأسطورة، سواء في مجال العلم الأكاديمي أو الأدب الإبداعي». وهو يعد الكوني واحداً من الكتاب العالميين في العصر الحديث.. ولدى الكوني روايات أخرى عديدة، وبأجزاء ثنائية أو ثلاثية، مثل رواية (السَحَرة) بجزأين، ورواية (المجوس) بجزأين ايضاً.

عرض مقالات: